ومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم ، عليه السلام . وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال ، فقال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . فروي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجن الذين كانوا سكان الأرض قبل ذلك ، فقالوا لربهم تعالى : أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ فقال الله لهم : إني أعلم ما لا تعلمون ، يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره ، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عيانا . فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبرائيل أن يأتيه بطين من الأرض ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني . فرجع ولم يأخذ منها شيئا ، وقال : يا رب ، إنها عاذت بك فأعذتها . فبعث ميكائيل ، فاستعاذت منه فأعاذها ، فرجع وقال مثل جبرائيل ، فبعث إليها ملك الموت فعاذت منه ، فقال : أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي ، فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، وطينا لازبا ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .
وروى أبو موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر ، والأسود ، والأبيض ، وبين ذلك ، والسهل والحزن ، والخبيث ، والطيب ، ثم بلت طينته حتى صارت [ ص: 28 ] طينا لازبا ، ثم تركت حتى صارت حمأ مسنونا ، ثم تركت حتى صارت صلصالا ، كما قال ربنا ، تبارك وتعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
واللازب : الطين الملتزب بعضه ببعض . ثم ترك حتى تغير ، وأنتن ، وصار حمأ مسنونا ، يعني منتنا ، ثم صار صلصالا ، وهو الذي له صوت .
وإنما سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض . قال ابن عباس : أمر الله بتربة آدم فرفعت ، فخلق آدم من طين لازب من حمإ مسنون ، وإنما كان حمأ مسنونا بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبر إبليس عن السجود له . قال : فمكث أربعين ليلة ، وقيل : أربعين سنة ، جسدا ملقى ، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل ، أي يصوت ، قال : فهو قول الله تعالى : من صلصال كالفخار ، يقول : منتن كالمنفوخ الذي ليس بمصمت ، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ، ويدخل من دبره ، ويخرج من فيه ، ثم يقول : لست شيئا ، ولشيء ما خلقت ، ولئن سلطت عليك لأهلكنك ، ولئن سلطت علي لأعصينك . فكانت الملائكة تمر به فتخافه ، وكان إبليس أشدهم منه خوفا .
فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه ، وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحما ، فلما دخلت الروح رأسه عطس ، فقالت له الملائكة : قل الحمد لله .
وقيل : بل ألهمه الله التحميد ، فقال : الحمد لله رب العالمين . فقال الله له : رحمك ربك يا آدم . فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما بلغت جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك يقول الله تعالى : [ ص: 29 ] خلق الإنسان من عجل . فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين . فقال الله له : يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين ، فلم يسجد كبرا ، وبغيا ، وحسدا . فقال الله له : ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي إلى قوله : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين . فلما فرغ من إبليس ومعاتبته ، وأبى إلا المعصية ، وأوقع اللعنة ، وأيأسه من رحمته وجعله شيطانا رجيما ، وأخرجه من الجنة .
قال الشعبي : أنزل إبليس مشتمل الصماء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل .
وقال حميد بن هلال : نزل إبليس مختصرا فلذلك كره الاختصار في الصلاة ، ولما أنزل قال : يا رب ، أخرجتني من الجنة لأجل آدم ، وإني لا أقوى عليه إلا بسلطانك . قال : فأنت مسلط . قال : زدني . قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله . قال : زدني . قال : صدورهم مساكن لك ، وتجري منهم مجرى الدم . قال : زدني . قال : أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم .
قال آدم : يا رب ، قد أنظرته ، وسلطته علي ، وإنني لا أمتنع منه إلا بك . قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء . قال : يا رب ، زدني . قال : الحسنة بعشر أمثالها ، وأزيدها ، والسيئة بواحدة ، وأمحوها . قال : يا رب ، زدني . قال : ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا قال : يا رب ، زدني . قال : التوبة لا أمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح . قال : يا رب ، زدني . قال : أغفر ولا أبالي . قال : حسبي .
ثم قال الله لآدم : إيت أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم . فأتاهم فسلم عليهم ، فقالوا له : وعليك السلام ورحمة الله . ثم رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم . فلما امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستترا عنهم علم الله آدم الأسماء كلها .
الكامل في التاريخ
عز الدين أبو الحسن علي المعروف بابن الأثير
المفضلات