هذا رجلٌ يطلق زعيق بوق سيارته على نحو متواصل مزعجٍ مُنفِّر ، لأن السائق الذي أمامه تأخَّر لحظة عن الانطلاق عندما أضاءت الإشارة الخضراء . وذاك آخر يمدُّ يده من شباك سيارته بحركاتٍ عصبيّةٍ متوترةٍ ، لأن سائقاً قريباً منه انعطف ذات اليمين أو ذات اليسار فجأة . وهذا ثالث يرسل شتائمه باللفظ والحركة والملامح لأن سيارة عمومية توقفت أمامه لتُنزل أو تُقلَّ راكباً . وذلك شاب يافع (أو فايع) يسير خلف سيارتك بسرعة عالية ، ويقترب منك حتى ليوشك أن يصدمك ، وهو يومِضُ بالضوء العالي لأنه يرغب في أن يتجاوز عنك ولو بالإزعاج والتهديد . وتلك امرأة أنيقة تركب سيارة فخمة ، تبدو وقد بذلتْ معظم حياتها لإقناع المجتمع بأنها راقية ، تتعرض لحادث بسيط ، فتسمع منها من الألفاظ السوقيّة ، وتشهد منها من السلوكات العدوانية ، ما يؤكد لك بأن الطبع يغلب التطبّع ، وأن القشرة تذروها هبّةُ ريح أو نسمة هواء .
انعكاس لثقافة المجتمع
كم تفتقر هذه التصرفات التي أشرنا إليها للتهذيب ! وكم تفتقد إلى الذوق والأدب الرفيع ! وكم تجافي الإحساس بالجمال ! وكم تحمل في طياتها من دلالات تشير إلى مستوى الذوق العام ، وإلى طبيعة ثقافة المجتمع أو فئة منه ، ونظرة كل فرد فيه إلى الآخر . ولاسيما أنها سلوكات يُنظَرُ إليها على أنها عادية طبيعية ، بدليل انتقالها من السابقين إلى اللاحقين ، وتفشيها بالعدوى ، والاقتباس اللاشعوري لها من قبل الصغار عن الكبار ، والأقران عن الأقران ، ومما يدل على ذلك أن العبارات المستخدمة عند الاعتراض على سائق آخر متشابهة، فهي تشمل شتم من عَلّمه السواقة ! وسبَّ الذي منحه الرخصة ! والإشارة باليد إلى الدماغ ... ثم بحركة النفي بواسطة ذات اليد كتعبير عن أن السائق الآخر لا يملك عقلاً ! مع بعض الألفاظ الشهيرة التي لا يجوز أن تَرِدَ في مقال في صحيفة .
هذا التناقض !
ومن عَجَبٍ ، أن تصرفات السائق نفسه صاحب العصبية الظاهرة ، والصبر النافد ، والحركات الممجوجة ، والشتائم المنفِّرة ، والتزمير المُسَتفِز ، يكون في كثير من الأحيان مختلفاً ، عندما يكون (مترجِّلاً) ماشياً ، فلو وافق أن توقّف أحدٌ أمامه فإنه لن يصرخ به ليفسح له الطريق ، بل ربما استأذنه بلطف ليمر ، أما عندما يقود السيارة فإنه يطلق للزمور
العنان لمن تباطأ أمامه ولو لبُرهة . يحدث هذا مع أننا في تعاملاتنا الاجتماعية والوظيفية والمهنية لا تعني لنا الثواني والدقائق وأحياناً الساعات والأيام شيئاً ، ويغلب أن نتعامل مع المواعيد على أنها مفتوحة ، أو فضفاضة ، أو غير
موجودة ، أو غير ذات قيمة .
إلتماس العذر للآخرين
حدثني صديقٌ ذات مرة قال : (كنتُ أشعرُ بالتذمر والضيق إذا توقف سائق تكسي أو سرفيس أو باص أمامي للتحميل
أو التنزيل ، فأُضطر ويضطر غيري للتوقف بسياراتهم خلفه أو التوجه يساراً لتجاوزه بصعوبة ، ثم خطر لي أن أتفكّر ، تُرى لو كنتُ مكان سائق هذا التكسي أَجمعُ رزقي ورزق عيالي من خلال مَنْ التقطُهم من ركاب ، وأمشي مسافات
استهلك فيها الوقت والجهد والوقود بحثاً عن راكب ، ثم أظفر به فجأة ، فهل كنتُ سأفرِّطُ به ولا أتوقف كيلا أزعج السائقين من خلفي ؟ وحين فكّرت على هذا النحو التمستُ العذر لكل سائقٍ عمومي) ثم أضاف الصديق ذاته يقول :
(وقد كان يزعجني أشخاص يقودون سياراتهم ببطء شديد في المسرب الأيمن ، حتى علمتُ من تجارب الحياة والقراءة
أن مِنَ الناس من يُضطر للقيادة لتصريف شؤون حياته ، رغم إنه يعاني من خوف مرضي يجعله شديد الرهبة والحرص أثناء القيادة ، ويتباطؤ على نحو قد يزعج سواه ، غير أن الأمر ليس بيده وإرادته ، فهو مرض لا قدرة له عليه ،
وبإمكاننا أن نلتمس له ولمن هو مثله العذر) .
إنها النظرة للآخر
إنها النظرة إلى الآخر إذن ، فإذا كنا ننظر إليه دائماً على أنه خصم ، أو عائق يقف في طريقنا وينبغي إزاحته ولو بالضغط والإزعاج ، وإذا كنا ننظر إليه على أنه (شيء) لسنا مضطرين للاعتراف به وتفهُّم ظروفه والإقرار بأنه قد يخطئ ، إذا كان الحال كذلك ، فسوف تتسم ردود فعلنا نحـوه دائماً بالعدوان في اللفظ والجوارح والملامح لأقل هفوة ،
أو بدون هفوة ، أو لما نعتبره زللاً إذا صدر عن الآخر ومباحاً إذا صدر عنّا .
الأمر بحاجة إلى ذوق في التعامل ، وجمال في التعبير ، وعدم إفراط في الاستجابة ، واحترام وتقدير للآخر ، بوصفه إنساناً مثلنا وليس مجرد شيء أو عائق أو خصم . فإذا انتفى ذلك ، فسوف يختلط ضجيج أبواق السيارات ، بصخب الشتائم ، والحركات العدوانية ، والتضارب بالأيدي كذلك . وسيبدو كل ذلك عادياً ، نقرُّ به حين ينطلق عنّا ، ونرجم
الآخر بحجرٍ إن بدر منه .
المبالغة في رد الفعل
لا يعني كل ما تقدم طبعاً تبرير خطأ السائق الغافل أو الساهم أو السادر في تأملاته ، أو خطأ من ينعطف دون أن
يومئ بإشارة من غمّاز سيارته ، أو من يتوقف فجأة دون سابق إنذار ، أو مـن يختار مسرباً لا يناسب سرعته أو اتجاهه ..
غير أن نَقْرَةً بسيطة على الزمور ، إن كان لا بد منها ، تكفي للتنبيه ، أما المبالغة في رد الفعل والاستجابة ، وتهويل الهفوة والهنّة والزَّلة فلا يُعبِّر إلا عن حالة اللاسواء ، الذي كثيراً ما يستدل عليه من خلال الإفراط في الاستجابة على مثير بسيط .
في بلاد أخرى ..!
ثمة بلاد متقدمة ، شوارعها ربما ليست أعرض من شوارعنا ، وعدد إشاراتها الضوئية لا يزيد عن عدد ما لدينا ، بينما عدد السيارات عندهم أكثر ، وحجم الازدحام أكبر ، ونسبة الحوادث أقل ، ورغم ذلك لا تسمع لديهم صخب زعيق
الزوامير والأبواق ، ولا يحملون (قنوة) أسفل كرسي السيارة أو في الصندوق الخلفي ، ولا يتبادلون الشتائم الآلية
(إن جاز التعبير) واللفظية والحركية في الطرق العامة . مع أن مواعيدهم في العمل والعلاقات الاجتماعية دقيقة ،
واهتمامهم بالوقت يصل إلى قياس أجزاء الثانية أحياناً ، وحياتهم محفوفة بالإنتاج والإنجاز والإبداع والتقدم .
منقول عن الراي
المفضلات