التربية بالمداعبة في ظل الاسلام
لقد اختصت السنة النبوية بتقرير هذا المبدأ ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، ولايقول إلا حقاً ، يداعب أصحابه ويمازحهم ويدخل السرور على أنفسهم ، ولقد حفلت السنة النبوية المطهرة بكثير من الحوادث التي تقر هذا الأسلوب المحبب إلى النفوس ، والذي لا يكاد يخلو من تأديب وتهذيب ، وتلطيف وتلميح ، يزيل الملل ، ويذهب السآمة ، ويعين على الطاعة ويدخل السرور إلى النفس .
إن الإسلام لا يقتصر في تربيته لأتباعه على أساليب معينة وجوانب محددة ... أن أغلب الكتب
ركز أصحابها على عدد من الجوانب ، وفي المقابل أهملوا جوانب أخرى لاتقل أهمية عن تلك
التي تناولوها بالدراسة والبحث ؛ فعلى سبيل المثال : فإن بعض الكتب تناولت جانب التربية بالقدوة – وهي ما نفتقد إليه اليوم إلا من رحم الله حتى بين المربين - ، أو التربية بضرب الأمثال ، أو التربية عن طريق القصة – وهي المنتشرة والمشهورة لدى أغلب المربين ، وقد يبلغ الأمر في بعض الأحيان إلى الكذب وتأليف القصص الخيالية ، والغاية – كما يزعمون – كسب قلوب الشباب - ، أو التربية عن طريق الترغيب والترهيب – وهي من الطرق التي تتشبث بها بعض الجماعات الدعوية على الساحة الإسلامية ، وهي مهمة في ذاتها ؛ لكن أن يتعدى الأمر بالاعتماد على الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، فإن هذا لن يؤتي ثمرته المرجوة إذ البناء إذا لم يكن على أسس متينة سرعان ما ينهار على صاحبه - ، أو أن تكون التربية عن طريق الأحداث ، أي ما يقع في المجتمع وربطه بحدث معين من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو سير الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ، مع استخلاص العبر والدروس منها بما يخدم المصلحة الدعوية – وهو ما نفتقده اليوم ، وما أكثر الأحداث التي تحتاج منا إلى وقفة متأنية - ، أو أن تكون التربية عن طريق المداعبة – وهذا الأسلوب وللإسف فُسِّرَ على غير مراده واتُخذ مطية تمتطيه بعض الجماعات في الساحة الدعوية ، وقد بولغ فيه وتجاوز الحد ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الإسفاف وقلة الذوق والأدب مع ما يصاحبه من مخالفات شرعية في بعض الأحيان كالتشبه بالكفار في الملبس و الكلام ، أو التشبه بالمخنثين مع تقليد حركاتهم وترديد بعض العبارات السوقية أو كلمات لبعض الأغنيات..
وهكذا ، ولم يفهم المراد من هذا الأسلوب ولم يطلع على حال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته مع أصحابه حينما كان يمازحهم ، ولم يفهم المغزى من هذه المداعبة ،
ولا يعني أن الأساليب التي ذكرت آنفاً لا تؤدي الغرض والهدف المنشود ، بل على العكس ، لكن إن أحسن المربي استخدامها .. وما كان تركيزي في هذا البحث على جانب المزاح والمداعبة إلا لما وجدت من أنها من أنجح أساليب التربية أحياناً ، إذ القصد من ورائه التحبيب إلى النفوس في جو من الأنس والسرور الذي يبهج الصدور ، فيسهل على القلب استقبال التربية والتوجيه بانشراح كبير ..
مفهوم المداعبة :-
ذكر ابن منظور في لسان العرب ( 1/ 375 – 376 ) في مادة دَعَبَ قوله : داعبه مداعبة : مازحه ، والاسم الدعابة ، و المداعبة : الممازحة ، وقال : الدعابة : المزاح ، والدُّعْبُبُ : المَّزّاح ، وأدْعَبَ الرجل : أي قال كلمة مليحة ، .. وقال الليث : فأما المداعبة فعلى الاشتراك كالممازحة ، اشترك فيه اثنان فأكثر .
وأما في الاصطلاح فالمداعبة كما عرفها ابن حجر في الفتح (10/526 ) : هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره .
والمداعبة والمزاح شيء واحد ، فهو كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى ، فإن بلغ به الأذى فهو سخرية ..
وخلاصة القول في مفهوم المداعبة :
هي استغلال بعض المواقف بقول أو فعل يدخل السرور على الآخرين ، دون جرح للمشاعر أو إهدار للكرامات ، وإذا اشتملت على مواقف تربوية كانت أكثر فائدة ، وأعظم أثرا .
أقسام المداعبة
يرى بعض الباحثين أن المداعبة تنقسم – من حيث الجواز وعدمه – إلى قسمين :-
الأول : ماكان مباحاً لا يوقع في معصية ، ولا يشغل عن طاعة ، على ألا يكثر منه المسلم ، فيطغى على الجدية التي هي الأصل في حياته ، وقد يكون المازح مأجور على مزاحه إذا أحسن النية ، وكان مقصده من مزاحه مصلحة شرعية .
يقول ابن حجر في الفتح (10/527 ) : فإذا صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب ، ومؤانسته ، فهو مستحب .
ومن هذا الباب كان مزاحه صلى الله عليه وسلم ، وكان مزاح صحابته من بعده ، وإن كان الصحابة رضوان الله عليهم قد تجاوزوا المزاح بالقول إلى الفعل ، فقد علل الأستاذ العودة في كتابه الترويح التربوي ( ص 91 ) بقوله :
ويستفاد من ذلك أن المربي القائد يُلزَم بما لايُلزَم به سائر الأفراد حفاظاً على مكانته أن تبتذل بمزاح مضاد ، وحفاظاً على أفراده في أن يتسبب في إحراجهم بأفعال يصعب الاعتذار منها .
الثاني : ما كان منه محرماً ، يخدش الحياء ويجرح الكرامة ويثير الحفيظة – وما أكثره اليوم - ، وهو المعني بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :
( لايأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ) صحيح سنن أبي داود (3/944) .
يقول ابن حجر في الفتح (10/526 ) كلاماً ما معناه : المنهي عنه في المزاح ما كان فيه إفراط أو مداومة ؛ لأنه يشغل عن ذكر الله ، وعن التفكر في مهمات الدين ويقسي القلب ويزرع الحقد ويسقط المهابة والوقار ، ثم نقل عن الغزالي قوله :
من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة ، وكان هذا رده على من يتخذ مزاحه صلى الله عليه وسلم دليلاً ، ثم يقول معلقاً على ذلك : حال هذا كحال من يدور مع الريح حيث دار .
منقول ...
\
المفضلات