من أبرز مميزات هذا العصر و ملامحه؟
ليكن حديث النهاية ، وليس ثمة تناقض في ذلك مع عصرنا هذا الذي نسعى هنا إلى تمثله، عصر يلهث فيه قادمه يكاد
يلحق بسابقه، وتتهاوى فيه النظم والأفكار على مرأى من بدايتها، وتتقادم فيه الأشياء وهي في أوج جدتها ، عصر تتآلف
فيه الأشياء مع أضدادها.
فالمعرفة قوة والقوة أيضا معرفة، معرفة تفرزها هذه القوة لخدمة أغراضها وتبرير ممارساتها وتمرير قراراتها. ولهذا التضاد المعرفي رفيق اقتصادي. فالمعلومات مال بعد أن أصبحت موردا تنمويا يفوق في أهميته الموارد المادية، والمال بدوره أوشك أن يكون مجرد معلومات، نبضات و إشارات وشفرات تتبادلها البنوك في معاملاتها المالية إلكترونيا.
وثمة علاقة بين هذا التضاد المعرفي- المعلوماتي والتضاد. الحاكم في عصرنا، الذي أصبح فيه العلم هو ثقافة المستقبل، في حين اقتربت الثقافة من أن تصبح هي علم المستقبل الشامل، الذي يطوى في عباءته فروعا معرفية متعددة ومتباينة.
إنه عصر المعلومات و اختلاط الأضداد إذن؟
ما أعجب أضداد عصرنا، ذلك الذي تتعلم فيه الأجيال اللاحقة من أجيالها السابقة، مثلما تتعلم السابقة من اللاحقة، بعد أن أصبحت معرفة من سبق تتهالك بمعدل يفوق في سرعته معدل اكتسابه لها.
وثمة صلة ما بين هذا ومعكوس التاريخ لدى ميشيل فوكو، الذي يزعم أن الماضي لا يؤدي إلى الحاضر، والحاضر هو الذي يهب الماضي معناه وجدواه. لقد اختلطت الأضداد وتداخلت في أيامنا حتى أعلن جان بودليار "نهاية الأضداد"، نهاية تضاد الجميل والقبيح في الفن، واليسار واليمين في السياسة، والصادق والزائف في الإعلام، والموضوعي والذاتي في العلم، بل ونهاية تضاد "هنا وهناك " أيضا بعد أن كاد "طابع المكان " أن ينقرض وقد سلبته عمارة الحداثة خصوصيته وتميزه. إنها بالقطع، وبكل المقاييس، ثورة مجتمعية عارمة. لقد دان العالم لسيطرة الصغير متناهي الصغر، من جسيمات الذرة وجزيئات البيولوجيا الجزيئية ، والأخطر من ذلك أنه قد دان لسيطرة "ذرة" المنطق الصوري التي بلغت ذروتها في ثنائية "الصفر والواحد"، الثنائية الحاكمة التي قامت عليها تلك التكنولوجيا الساحقة الماحقة:
تكنولوجيا المعلومات. حقا... نحن نواجه عالما زاخرا بالمتناقضات، يتوازى فيه تكتل دوله مع تفتيت دويلاته، ولا يفوق نموه الاقتصادي إلا زيادة عدد فقرائه. و ها هي شبكة الإنترنت، التي أقيمت أصلا لاتقاء ضربة نووية محتملة ربما يقدم عليها الخصم السوفييتي آنذاك، هاهي تلك الشبكة، وليدة الحرب الباردة، يرجون لها كأداة مثلى لإشاعة ثقافة السلام،
و نشر الوفاق و الوئام بين الأنام.
إنها البشرية تمارس هوايتها الأبدية في مزج الآمال بالأوهام، فلا حرج ولا تناقض بين حديث السلام هذا، والمائة والخمسين حربا التي نشبت منذ الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يبدو وكأن كبار عالمنا يصدرون لصغاره حروبهم وصراعاتهم وأزماتهم، يفتتونها حروبا أهلية، وصراعات عرقية ودينية ولغوية، وبطالة وتغريبا وتهميشا واستبعادا، وكل درجات هذا الطيف القاتم لاستغلال أيامنا. وربما تساير نزعة تفتيت الكوارث تلك نزعة اللامركزية التي تسود هذا العصر، وتتبدى- أكثر ما تتبدى- في شبكة الإنترنت، شبكة بلا محور وبلا قمة وبلا هرمية أو تراتبية.
أسرى الفكر الثنائي
هل لنا أن نتساءل عن العقلانية في زمن صار فيه من تعرف أهم من ماذا تعرف، ومازال كثيرون فيه أسرى الفكر الثنائي القاطع:
إما هذا، وإما ذاك، في الوقت نفسه الذي يسعى فيه عقل الكمبيوتر الآلي إلى التخلص من هذه الصرامة الثنائية ، لقد حق للإنسان بعد كل هذا أن يرتد ليجتر عقله الأول، عقل أسطورته، عساه يجد في لاعقلانيتها ما يعينه على فهم لغز حداثته، وما بعد حداثته. لقد صنع إنسان هذا العصر عالما يغص بالاحتمالات والتوقعات واللايقين، إلى الدرجة التي أصبح معها يخشى النجاح، قدر ما يخشى الفشل، بل يصل الأمر أحيانا إلى حد تفضيل الفشل.
فنجاح العولمة- على سبيل المثال- في رأي البعض هو الشيء الوحيد الأكثر سوءا من فشلها.
لقد استدرج التعقد إنسان هذا العصر إلى شباكه حتى كاد يتجاوز قدراته على الحل.
فعلى الرغم من كل ما يزهو به عصرنا من ثراء معرفته و وفرة معلوماته، و قدرة نظمه و آلاته و دينامية تنظيماته و سرعة قراراته، برغم كل هذا، مازال يستبيح لنفسه أن يسلم أقداره لعبث الأيدي الخفية التي تحرك اقتصاده وعولمته، ومعظم نظمه الاجتماعية، و أمور بيئته وأوضاع جماعاته.
وصدق من قال : كم نحن جوعى للحكمة و المعرفة، و نحن غرقى في بحور المعلومات و البيانات!
منقول
المفضلات