يأتيني صوت أمي يسألني: هل أريد فنجان قهوة آخر؟! ألتفتُ إليها وأومئُ برأسي بالإيجاب وهي التي تنظر إلى فنجان القهوة بشيء من الدهشة والإثارة، وقد اعتادت أن تقرأه جارتها لها بعد أن تحدّق في عينيها بتركيز عالٍ ثم في الرسومات التي تشكلّها بقايا البن في الفنجان المقلوب.. وعلى وقع الرجاء المعهود لأمي العطشى لكلمات تُرويها؛ تطلب منها أن ترى لها أياماً أفضل: «يا حبيبتي.. ألله يرضى عليكِ.. طمّنيني.. راح أشوفه قبل ما أموت ولاّ لأ؟». تجيبها الجارة وهي تعزف على وتر أحزانها: «أنتِ حزينة.. فنجانكِ دامع لم يجفّ بعد.. لكنني أرى من خلال الدموع طاقة.. هي طاقة فرَج.. سوف يخرج من السجن.. سوف يعود.. وقريباً جداً بإذنه تعالى!»، فتستقبل أمي النبوءة كل يوم بكثير من الفرح وكأنها تسمعها للمرّة الأولى!
كان ذلك سلوك حيرة وهدهدة للوهم والهذيان، ألم يقولوا إن صاحب الحاجة أرعن؟ لكنها عندما صدَقت أخيراً، وتحقّقت النبوءة التي ظلت الجارة تردّدها يوماً بعد يوم ولمدة ثماني سنين، زغردت أمي كما لم تزغرد من قبل. فكما اعتادَ الحزن الفلسطيني البكاء من عيون مدرارة، فإن فرحه اعتادَ الزغاريد من أفواه مطواعة.
وكانت البشارة للجارة!
أيّ بشارة كانت تلك يا أمي؟ كلّ ما يهمّك أنني أمامك بجسدي، ولكن هل تعلمين أنني في الحقيقة ما زلت أتسكّع على أرصفة المنافي الباردة في داخلي؟ أنتِ في قراءة الفنجان تؤكدين عجزك عن تفسير ما يحدث في حياتك، فهل يا تُرى أصبحتُ عاجزاً أحتاج مثلكِ إلى خرافة قراءة الفنجان؟
وها هي الشمس الغاربة أمامي تلوح مبتعدة في الأفق، وأضوية المدينة بدأت تتلألأ تباعاً، أجلسُ ووطني المجروح في داخلي بكل أوجاعه.. ذاكرة متعبة، وفنجان قهوة، وأوراق وقلم، ودخان سجائر؛ وأنا أحمل منفاي الجديد معي بعد أن غادرتُ منفى السجن. أحدّق في الفنجان المثخن بالحزن، كلما أقرّب شفتي منه تبدو لي قهوتي باكية، تعلم أسراري وما يخفيه قلبي.
كان هناك هاجس يقول لي: أليس من حقّي أن أكون أحد المجانين والشعراء الذين قال عنهم نزار قباني إنهم هم الوحيدون الذين يحسنون الكتابة عن منافيهم وجراحهم؟ وها أنا أخيراً أتحوّل إلى أحدهم وأنا الذي أصبحتُ ابن المنافي بامتياز.
قال همنغواي إن الإنسان يحتاج إلى سنتين كي يتعلم الكلام، وخمسين سنة كي يتعلم الصمت، أما أنا فقد أتقنتُ الصمت باكراً ولم أقترب من الخمسين بعد، أتقنتُه وسط انكماشٍ وهجرة داخلية في النفس وأنا مثقلٌ بالكلمات. وها أنا أحاول أن أكتب بخطّ مرتجف وأنا أشعر بقدسيّة الاعتراف حدّ المهابة وسط مهرجان بوح تلقائي، أفتح سرداباً جديداً وأدخل في عتمة غير عتمة الزنازين التي خبرتُها كي أستريح فيه. أودع فيه خفايا الروح، بل الخيبات، خيباتي الكثيرة التي تتوالى، كمن دخل غرفة الاعتراف في الكنيسة. أليس غريباً أن تصبح الأوراق أحياناً كالكاهن الذي توْدعه أدقّ أسرارك وأنت مطمئنّ أنه لن يفشيها مهما كلف الأمر؟
غريبة هذه الدنيا!
أبحث فيها عن نفسي بين الأحياء، وحتى الأموات، فلا أجدها وأنا أرى التضليل الإعلامي قد فاق كل التصوّرات والتوقّعات؛ حتى تغيّرتْ لغته وتحوّلتْ إلى كلام بلا رصيدٍ على أرض الواقع فلم أعد أفهمها، تماماً مثلما تغيرتُ أنا على وقع خطوات الزمن ولم أعد أفهم نفسي. تُرى هل أنا نسيج وحده؟ حالة شاذّة؟ حتى أصبحتُ خارجها وخارج هذا الوطن بعد أن خبأتُ وطناً آخر في داخلي لا يوجد فيه متسلّطون تحت عباءة الأيديولوجيا ولا تبدو فيه العروبة؛ القوميّة العربيّة والعزّة والكرامة والمقاومة، بعد أن أساءوا ممارستها وتبرأوا منها، كأنها عارٌ أو مرض معْدٍ يستوجب الشفاء منه.
غريب هذا الزمن!
مفجعٌ أحد أيامه عندما رأيتُكِ في إحدى الأمسيات وأنا عائد إلى البيت تسيرين معه ومعكما ابنكما الصغير. كنتِ حينها تبدين مزهوّة والحب ينطق من عينيك، تماماً مثلما كنتِ عندما تكونين معي، وأنا الذي كثيراً ما تساءلتُ من منفاي في الأسْر: ترى إن رأيتِني هل ستجيئين نحوي؟
لكن بعد ثماني سنين من ذلك اللقاء الأخير، الذي بدا كل شيء فيه مثاليّاً حدّ النشوة وأنت تقولين لي: «لن تفرّقنا الأيام مهما حدث»، بدوتِ كمن استيقظ من إغفاءة عين فرأى أمامه الذي لم يتوقّع رؤيته.. أما أنا، فقد كنتُ كخفقةٍ وسط العاصفة، كصعقة كهربائيّة انتفض منها جسدي. فاكتفينا أنا وأنتِ بإيماءة بسيطة وابتسامة مغتصَبة جاءت على شفاهنا متكسّرة.. بطيئة.. متردّدة.
تُرى أكنا نبتسم لما آل إليه حالنا بعد أن وضعتنا الأقدار على مفترق طرق؟ أحقاً كانت لمشاعرنا فترة من الصلاحية كحليب الأطفال؟ أكانت غلطتنا أننا رمينا أنفسنا في بحر العشق بلا بوصلة.. بلا خريطة.. بلا شهادة تأمين؟ أكانت قصّتنا كرقصة التانجو؟ تلك الرقصة الحزينة التي يتناغم فيها جسدان وهما يخطوان خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف، كأنهما يعانقان حياة تجمعُ في نسماتها عطر الحب والقلب؛ الشغف والعشق، رقصة تنتهي بتوقّف الموسيقى وانفصال الراقصين بعضهما عن بعض.
بعدها مضيتُ في سبيلي وأنتِ تقوديين خطواتي إلى حيث ذاكرتي المتعبة، أرنو حزناً إليك.. فأشعر برغبة في البكاء!
وها أنا الآن أضع القلم جانباً وأجلس كما لم أجلس من قبل، أجول بناظري في غرفتي لأرى صورتي في المرآة. رجل أكل منه المرض وغول السجن والسجّان ما أكل، رجلّ طلّته تشكو حكم مرور الزمن وتقلّباته، وجهٌ مشوّشٌ بتجعّدات وتغضّنات، والحاجة إلى حبوب الضغط والسكّري وأوجاع المفاصل.. كلها تشي بسطوة حكم الزمن والعجز عن الانعتاق من قيوده. أما أوجاعي النفسيّة فقد أصبحت مزمنة لا ينفع معها علاج، بعد أن تلاشت الأمنيات والأحلام في جغرافيا داخلي. إنها عذابات الاغتراب الفكريّ والروحيّ والجسديّ بفعل الكثير من الألغاز التي تستعصي على الحل.
فأيّ بشارة كانت تلك يا أمي؟!
سوزان الراسخ .. عن الرأي
المفضلات