ثانياً : جهود هرتزل بعد المؤتمر الصهيوني الأول حتى وفاته عام 1904م
بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني في آب/أغسطس 1897م بدأ هرتزل يجري اتصالات مكثفة بجهات أوروبية عديدة .
على رأسها ألمانيا التي كانت تُعتبر صديقة لتركيا ، وكان يعلق عليها أملاً كبيراً في الحصول على وساطة له عند
السلطان عبد الحميد، لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين ، والحصول على وعد بمنحهم وطن قومي فيها .
ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر أرسل هرتزل رسالة إلى قيصر ألمانيا يطلب مساعدته بإقامة شركة يهودية تحت الحماية الألمانية تهتم بأمور هجرة اليهود إلى فلسطين ، ويطلب منه بذل جهوده مع السلطان لإقناعه باستيطان يهودي في فلسطين ليكون ذلك موضوعاً من الموضوعات الهامة التي سيثيرها القيصر مع السلطان عند سفره إلى الآستانة .
وفي الوقت الذي كانت تبذل فيه الحركة الصهيونية جهودها مع الدول الأوروبية الكبرى لإنجاح مشروعها لتحويل فلسطين لوطن قومي يهودي يضمنه القانون العام ، قرر هرتزل في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1897 الاعتماد على
" جمعية الاستعمار اليهودي " في إنشاء مشاريع مالية يهودية في تركيا كسبيل مثالي لإنشاء " الوطن القومي " كما يبدو من الرسالة التي كتبها بتاريخ 29/11/1897م .
كما حاول هرتزل الاتصال بالسلطان العثماني مرة أخرى ، حيث اجتمع في 4/2/1898م بالسفير العثماني في ألمانيا (أحمد توفيق) من أجل وساطته لتحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين ، مقابل القروض المالية التي كان يحاول أن يستخدمها هرتزل وسيلة لحمل السلطات العثمانية على الموافقة على مشروعه ، إلا أن السفير العثماني نصح هرتزل بأنه من الصعب بيع فلسطين أو حصول اليهود على مقاطعة خاصة بهم .
وفي مقابلة ثانية لهرتزل مع (أحمد توفيق) بعد أربعة أيام من الأولى نصح الثاني الأول
" بان يطالب بقطعة أرض في آسيا الصغرى هذا سيكون أضمن لنا ـ لليهود ـ ورفضت هذا.... " .
وقد خرج المؤتمر الصهيوني الثاني بتوصيات وقرارات كان منها إطلاق يد هرتزل في التفاوض مع الدول الأوروبية
لخدمة المسألة اليهودية ، ولما كان هرتزل يعلم بمدى الصداقة بين ألمانيا وتركيا فقد وجه جل اهتمامه إلى ألمانيا ، حيث كثف محاولاته لإقناع القيصر الألماني ، الذي كان على وشك التوجه إلى الآستانة للقاء السلطان عبد الحميد هناك .
وقد لحق هرتزل بالقيصر الألماني إلى الآستانة وحاول الاجتماع به ، وقد تم له ذلك في 18/10/1898م وقد دار حوار قومي بينهما ، عرض فيه على القيصر (غليوم الثاني) مشروعه ومدى الفائدة التي ستعود على ألمانيا إلا أن الإمبراطور الألماني لم يعطه قراراً نهائياً ، لا بالرفض ولا بالإيجاب . يوميات ص114ـ 116.
وكذلك عندما اجتمع هرتزل بالقيصر في القدس ، لم يحصل منه على أكثر من ترحيب وتشجيع بأن يعود اليهود إلى فلسطين كرعايا للدولة العثمانية من أجل المساعدة في مجالات الزراعة وتنميتها .
ومع بدء جلسات المؤتمر الصهيوني الثالث الذي عقد في آب/أغسطس 1899م أرسل هرتزل إلى السلطان العثماني
رسالة يعرض فيها رغبة الصهاينة المجتمعين بأن يكونوا مخلصين لعطفه نحو رعاياهم ، وأنهم يرغبون في إغاثة اليهود التعساء في دول أوروبا . يوميات ص149.
إلا أن السلطان عبد الحميد لم يرسل إليهم برسالة جوابية بهذا الخصوص .
وقد استمر هرتزل في محاولاته لمقابلة السلطان عبد الحميد دون كلل أو ملل ، وقد وسط هذه المرة (فامبري) وهو مستشرق هنغاري يهودي الأصل ، وفي 8/5/1901 ، اخبر (فامبري) هرتزل أن السلطان سيستقبله
" ولكن ليس كصهيوني ، بل كرئيس لليهود وصحفي ناقد ". يوميات ص172.
وقد حذر (فامبري) هرتزل من السلطان لأنه يكره الصهيونية قائلاً له :
" إياك أن تحدثه عن الصهيونية ، إنها فانوس سحري ، القدس مقدسة لهؤلاء مثل مكة إلا أن الصهيونية جيدة ضد المسيحية " .
وقد كان هرتزل متفائلاً جداً ، منذ أن أخبره (فامبري) بموافقة السلطان على مقابلته ، وكان يتصور أن السلطان سيوافق على بيعه فلسطين ، وأنه لا عقبة أمام هرتزل إلا كيفية تدبر المال اللازم لذلك ، ولم يكن يعلم أن رد السلطان عبد الحميد سيكون نفس الرد السابق لأن فلسطين أرض مقدسة مباركة عند المسلمين ولا يقبل أي مسلم غيور على دينه التفريط فيها .
وعندما جرت المقابلة بتاريخ 18/5/1901م اصطحب هرتزل معه حاخام اليهود في تركيا (موسى ليفي) ، وفي الاجتماع بدأ هرتزل ممالأة واستعطاف السلطان ـ بواسطة المترجم إبراهيم بك ـ وقال له :
" إني أكرس نفسي لخدمته لأنه يحسن إلى اليهود ، واليهود في العالم كله مدينون له بذلك ، وإني بشكل خاص مستعد لتأدية أية خدمة له خاصة الخدمات الكبرى " .
وأشار إلى الخدمات المالية فصلاح الاقتصاد العثماني المتدهور وتصفية الديون المقدرة بمليون ونصف المليون جنيه ، وعرض توسطه لإيقاف حملات صحف " تركيا الفتاه " في أوروبا، ثم لمح إلى أن الحركة الصهيونية تهدف إلى إيجاد
" ملجأ لليهود " في الأراضي المقدسة ، وكان الحاخام (موسى ليفي) يؤيد هذا الرأي .
فبادره السلطان غاضباً :
" إننا نظن بأن بني قومكم يعيثون في الممالك المحروسة الشاهانية بعدالة ورفاه وأمن ... وأضمن أنكم تعاملون نفس المعاملة الحسنة التي يعامل بها كافة تبعتنا دون تفريط ، أو تمييز ويعيشون في أمن واعتماد .
هل لكم شكاية ما أو هناك معاملة غير عادلة ولا نعرفها نحن ؟ " .
ويضيف المؤرخ التركي (جواد رفعت اتلخان) ـ المعاصر للسلطان عبد الحميدـ بأن الحاخام (موسى ليفي) أجاب السلطان بخوف وقال :
" أستغفر الله سيدنا ... بفضل ظل شاهانتكم نعيش بكمال الرفاه . حاشا لا توجد لنا شكاية ما ، إننا نسترحم فقط جعل قومنا العائشين مشتتين " مشتت " فوق الأرض صاحب وطن في ظل شاهانتكم ليقوموا هناك بفرائض الشكر والدعاء لحياة سيدنا العظيم طول بقاء الدنيا " .
فرد السلطان منزعجاً :
" لا يمكن أن نعمل أكثر مما عملناه حتى الآن لجماعتكم حيث أنكم تستفيدون من كافة خيرات بلادنا كمواطينينا الآخرين ، بل أنتم متنعمون ومرفهون أكثر من سواكم في أحضان شعبي الشفيق ، فأظنكم نسيتم الاضطرابات والعذاب ـ الذي كنتم ترونه في أنحاء الدنيا " .
ثم وقف السلطان لحظة ودار نظره إلى هرتزل ثم إلى الحاخام وقال له :
" أليس كذلك يا حاخام أفندي ؟ أن بلادنا التي حصلنا على كل شبر منها ببذل دماء أجدادنا ... لا يمكن أن نفرط بشبر منها دون أن نبذل أكثر مما بذلناه من دماء في سبيلها " .
وذكر السلطان أنه لو علم بأن هذا الاجتماع سيدور حول فلسطين دون القضايا المالية لاضطر منذ البداية لإلغائه .
بعد تلك المقابلة لم ييأس هرتزل من المحاولة ثانياً ، فأعاد الكرة مرة ومرات عارضاً مشاريعه المغرية تارة ، ومحاولاً استغلال نفوذ الدول الأجنبية الأوروبية للضغط على الباب العالي ، ومحاولة إقناع السلطان عبد الحميد بالفكرة
تارة أخرى .
واستمرت جهود هرتزل في جميع الاتجاهات من أجل الحصول على فلسطين دون أن تثنيه كل المحاولات الفاشلة حتى وفاته عام 1904م ، وكان أصعب مواقف الفشل التي تعرض لها مع السلطان عبد الحميد الذي أفهم وسطاء هرتزل
رفضه تحقيق مشروع اليهود في فلسطين قائلاً :
" انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع . إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض . فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي ، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ، إذا مزقت إمبراطوريتي فعلهم يستطيعون آنذاك بأن يأخذوا فلسطين بلا ثمن ، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق أولاً في جثثنا وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ، ونحن على قيد الحياة " .
وقد أثر رد السلطان ذلك على الجهود الصهيونية والدول الأوروبية التي رأت أن السلطان لم يغير موقفه ، إلا أن هرتزل رغم كل ذلك ظل يسعى لدى الدولة العثمانية على أمل الحصول على فلسطين ، ولم يكف عن محاولات الوساطة التي كان آخرها قبل موته بأيام قليلة . حيث وعده وزير خارجية النمسا والمجر بالوساطة لدى السلطان .
منقول ويتبع بإذن الله .
المفضلات