أمثلة من القرآن ـ1ـ
الكفر بأنعم الله
أمثال عظيمة في سورة النحل ذات العبر لمن اعتبر , ومثلنا لمن وعاه عبرة يعتبر بها حال بلاد المسلمين في هذا الزمان , ليعرف لما آل بهم المآل إلى هذه الحال ؟ إنها سنة الله في خلقه ولا مبدل لسنته قال تعالى ((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)) النحل112
القرية : هي بلد الاستقرار
آمنة : أي في مأمن من الإغارة عليها من خارجها , والأمن من أعظم نعم الله تعالى على البلاد والعباد
مطمئنة : أي لديها مقومات الحياة فلا تحتاج إلى غيرها , فالحياة فيها مستقرة مريحة , والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الذي يجد فيه كل مقومات الحياة فالأمن والطمأنينة هما سر سعادة الحياة واستقرارها .
وحينما أمتنّ الله تعالى على قريش قال ((لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآءِ وَالصّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبّ هَـَذَا الْبَيْتِ * الّذِيَ أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مّنْ خَوْفٍ )) فطالما شبعت البطن وأمّنت النفس استقرت بالإنسان الحياة , والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مثلى للحياة الدنيا فيقول (( من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ))
وأهل هذه القرية بعد أن تمت لهم النعمة واكتملت لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة فماذا كان منهم ؟ ( فكفرت بأنعم الله ) أي جحدت بهذه النعم واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته فكانت النتيجة ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .
من أريد بهذا المثل ؟ قال أهل التفسير ,ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري رحمهم الله هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمناً لا يخاف كما قال تعالى (( أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا )) وهكذا قال ها هنا (( يأتيها رزقها رغداً )) أي هنيئاً سهلاً ((من كل مكان فكفرت بأنعم الله )) أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد عليه الصلاة والسلام إليهم , كما قال تعالى (( ألم ترى إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار )) ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال (( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف )) أي البسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه , وقوله (( والخوف )) وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة المنورة من سطوته وسراياه وجيوشه وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم ومنهم وامتن بهم .
الفوائد :
قوله تعالى (( فأذاقها الله )) من الذوق نقول : ذاق وتذوق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوقه , والذوق لا يتجاوز حلمات اللسان , إذن : الذوق خاص بطعم الأشياء لكن الله سبحانه وتعالى لم يقل : أذاقها طعم الجوع بل قال لباس الجوع والخوف فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباس يلبسه الإنسان , والمتأمل في الآية يطالع دقة التعبير القرآني فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف , كيف ذلك ؟ الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم من شحوم فإذا ما انتهت الشحوم تغذى الجسم على اللحم ثم بدأ ينحت العظام ومع شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً وعلى الجلد هزالاً ثم ينكمش ويجف وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد وكأنه لباس يرتديه الجائع , وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع ولكن من هيئته وشحوب لونه وتغير بشرته .
وكذلك الخوف وإن كان موضعه القلب إلا أنه يظهر على الجسم كذلك , فإذا زاد الخوف ترتعد الفرائص ويرتعش الجسم كله فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه .
وهكذا جسد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية وجعلها محسوسة تراها العيون ولكنه أدخلها تحت حاسة التذوق لأنها أقوى الحواس , وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يوحي بشمولهما الجسم كله كما يلفه اللباس فليس الجوع في المعدة فقط وليس الخوف في القلب فقط ( تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله ) .
في الآية تحذير من الحق سبحانه وتعالى لكل مجتمع كفر بنعمة الله واستعمل النعمة في مصادمة منهجه سبحانه فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء .
اللهم أهدي المسلمين للعمل لما فيه صلاح دينهم ودنياهم واجعل بلادهم بلاد أمن وأمان وسلامة وإسلام وغير حالهم إلى خير منه يهابهم عدوه ويأمن عندهم من والاهم .
هذا والله تعالى أعلم
المفضلات