ابن خلدون حياته ونشأته
ويهمُّنا هنا أن نُلْقِيَ بعض الضوء على ابن خلدون ؛
فهو أبو زيد عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي، مولده بتونس في غرة رمضان (732هـ)، ورحل إلى فاس، وغرناطة، وتلمسان، والأندلس، كما تَوَجَّهَ إلى مصر، حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، ووَلِيَ فيها قضاء المالكية،
وظلَّ بها ما يناهز ربع قرن (784-808هـ)، حيث تُوُفِّيَ ودُفِنَ في مقابرها عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا[12].
وقد نشأ ابن خلدون في بيت علم ومجد عريق، وحفظ القرآن في وقت مبكِّر من طفولته، وكان أبوه هو معلِّمه الأول، كما درس على يد مشاهير علماء عصره، وقد اتجه إلى الوظائف العامَّة بعد موت عامَّة أساتذته في الطاعون الذي أصاب بلادهم، والتحق بوظيفة كتابيَّة في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لتُرْضي طموحه، وعَيَّنه السلطان (أبو عنان) - ملك المغرب الأقصى - عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأُتِيحَ له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء، الذين نزحوا إليها من (تونس)، و(الأندلس)، و(بلاد المغرب).
ورحل ابن خلدون إلى غرناطة تاركًا أسرته بفاس، ثم عاد إلى وهران بالجزائر؛ ليستقرَّ في قلعة ابن سلامة هو وأهله أربع سنوات، ومن هنا بدأت مسيرته مع كتابه (العبر في ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)؛ لتكون مقدِّمَة هذا الكتاب أول وأشهر مقدِّمة صُنِّفَت في علم الاجتماع، وشئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد عالج فيها ما يُطْلَق عليه الآن (المظاهر الاجتماعية) - أو ما أَطْلَقَ عليه هو
(واقعات العمران البشري)، أو (أحوال الاجتماع الإنساني)[13].
مقدمة ابن خلدون
بسط ابن خلدون في المقدمة كل ما لديه من علم ومعرفة، فجاءت شيئًا ثمينًا، بل متقدِّمة جدًّا على العصر الذي كُتِبَتْ فيه، وهي تحتوي على ستَّة فصول كما يلي:
الأول: في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام)، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات.
والثاني: في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفًا أهمَّ خصائصه المميِّزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه.
والثالث: في الدولة والخلافة والمُلْك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي)، وقد درس قواعد الحكم، والنُّظُم الدينية، وغيرها.
والرابع: في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري)، وقد شرح جميع الظواهر المتَّصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضُّر هو غاية التمدُّن.
والخامس: في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي)، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع.
والسادس: في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي)، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم.
كما درس ابن خلدون الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق[14].
والحقيقة الظاهرة أن أحدًا قبل ابن خلدون لم يَعْرِض لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة تحليلية أَدَّتْ إلى نتائج ومُقَرَّرَات مثل تلك التي أَدَّتْ إليها دراسة ابن خلدون، ذلك أن المفكِّر المسلم الفقيه درس الظواهر الاجتماعية من خلال الإخبار التاريخي السليم، مثلما يدرس العلماء علوم الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، وهو بذلك يكون أول مَنْ أخضع الظواهر الاجتماعية لمنهج دراسي علمي، انتهى به إلى كثير من الحقائق الثابتة التي تشبه القوانين، وعليه فإن ما توصَّل إليه ابن خلدون من نظريات يظلُّ عملاً رائدًا في ميدان الدراسات الاجتماعية في مسيرة الفكر الإنساني[15]... منقول
يعتبر ابن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها. وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقا بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوجست كونت.
المفضلات