ابراهيم كشت: يحسب أنّ « ذاته « هي محور الحياة ومركز الكون، وأنّ الكواكب والأقمار تدور في فلكه ومن حوله، فلولاه لما أنارت ولا شعشعت، و لكانت بين الأجرام سديماً متناثراً مظلماً لا يجمعها جامع.
********
ويخال أنّ « نفسه « هي النّقطة التي يبتدئ من عندها التّاريخ وينتهي، فلم يكن للبشريّة من تراث قبله، ولن يكون لها كيان بعده، فلولاه لتوقّفت دورة الحياة واختلّ تسلسل الأحداث، وعمّ الفساد في السّماوات والأرضينَ.
********
ويظنّ أنّ بصيرته « الثّاقبة الخارقة للحدود « هي المنظار الوحيد الّذي يمكن استخدامه في النّظر إلى النّاس والأشياء والعلاقات، وكلّ المناظير الأخرى بَلّورُها مُتعفِّرٌ بالغبار، وقاصرٌ عن حُسن الرّؤية والوضوح، فالحُجُبُ مُسدَلةٌ دون سواه من النّاس، مرفوعة من أمام عينيه .
********
الموظّفون – في عقيدته – يصلحون لأداء دَوْرِ الرّقيق، وليس فيهم من يمتلك رأياً، أو يصلح لمشورة، أو يحوز من الإمكانات ما يُخوّلُهُ اتّخاذ القرار، أو تصريف شأن من الشّؤون. فالسّذاجة والسّطحيّة تغشى كلّ من حوله، أمّا الّذكاء فَقَصْرٌ عليه من دون العالمين، والخطأ دائماً سمة الآخرين، أمّا العصمة فميّزةٌ منحها له الرّبُّ ولم يمنحها لأحد بعده.
********
والتّفويض – في مذهبه – موضوعٌ للتّرف الفكريّ، ودعوةٌ أطلقها الفلاسفة من أبراجهم العاجيّة، تصلح للتّحاور بين المتناظرين في القاعات الأكاديميّة، أمّا أن يكون لها مكان في العمل، فذلك ما يجافي الواقعيّة، ولا يُناسب انحطاط مستويات الرِّعاع من العاملين معه.
********
إنّه ذو الّرأي الأوحد، والقرار الأصوب، والموقف الأمثل، والنّظرة التي لا تحيد عن الحقّ أُنْمُلةً. فقوله في كلّ أمر فصلُ لا معقّب له، وقراراتُهُ نتيجة نهائيّة كالحكم الصّادر عن أعلى محكمة، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يقبل النّقاش أو المراجعة أو حتّى الاستيضاح.
********
والحِوار – في يقينه – لغة تصلُحُ لأدب المسرحيّات، ولا يُجدي، كأسلوب من أساليب فضّ المنازعات، أو تقريب وُجُهات النّظر، أو تبادل الآراء، أو إثراء الأفكار. فما الّذي يدعو إلى الحوار أصلاً، طالما أنّ الحقيقة أوتيَت له مطلقة، ولا مكان لنسبيّتها في الوجود، وطالما أنّه حاز المنطق وحده، واستأثر بالحكمة من دون خلق الله أجمعين، وطالما أنّ دائرة معارفه لم تغادر كبيرة ولا صغيرة إلاّ وأحاطت به علماً .
********
لا يكفي أن يمتثل الآخرون لأمره، بل يجب أن يصفّقوا ويهلّلوا أوّلاً للرّأي الذي انطلق عنه هذا الأمر، ويجب أن يُعجبوا – ولو كّرْهاً – بقراراته، وأن يُظهروا التّأييد لها، ويروّجوها، وينبهروا بها انبهاراً. ويجب أن يرسموا حوله هالةً ولو مصطنعة، وأن يُحيطوه بالمهابة والإجلال والتّبجيل ليضمن أن يظلّ أبداً عملاقاً بين من حوله من الأقزام.
********
الإصغاء – في قاموسه – يُعني الضّعف، وعلى الموظّفين المستضعفين أن ينصتوا له وحده، وينبغي أن يخرس كلّ صوت آخر، حتّى لو كان صوت ذواتهم الّتي يحدّثون به أنفسهم، فحين يتكلّم، يجب أن تُلجم الأفواه وتكمّم، إلاً من صوت مؤيّدٍ أو متملّقٍ.
********
ها هو صاحب الحلّ والرّبط، والسّلطات محصورةٌ في يده، كما تنحصر المكرُمات بالأولياء، والمعلومات حقٌّ له، ولا يملك أحد شرف الإطّلاع عليها إلاّ بإذنه، فهو الذي يوزّع العطايا لمن شاء كيفما شاء، وعطاياه مِنحةٌ ومنَةٌ وليست حقاً لأحدٍ غيره.
********
ولئن ظفر أحد الموظّفين صدفةً بفكرة مبدعة، أو ابتكار جديد، فإنّ الوحي قد أخطأه حين هبط على ذلك الموظّف، ولهذا فهي حقُّ من حقوقه، ينتحلها وينسبها إلى ذاته، كأنّها ابن شرعيّ من أبنائه، لأنه ليس لأحد أن يتميّز بحضرته ووجوده.
********
وفي عُرفه أنّ العمل مصالح يجب أن تتحقّق، وتحقيق تلك المصالح هو همّه الأوحد، ولا أهميّة للبشر الذين يعملون تحت إمرته لتحقيقها، فلتُدَس معنويّاتهم، ولتستنفد كلّ طاقاتهم، وليُحرموا أدنى حقوقهم، ولتُـنتَقص أجورهم، وليُعانوا ما شاؤوا أن يعانوا، فالمُهمّ أن تُنجز هذه المصالح ولو بالقسوة والبطش وتحطيم النّفوس. وثمّة في منهجه دائماً عقوبة لمن يهفو، وأقل العقوبة كلماتُ فظّة غليظة قاسية تنحدر من لسانه كأنّها ( جلمود صخرٍ حطّه السيْلُ من علِ )، أما ثواب الملتزمين بإرادته وأوامره ونواهيْه فهو النّجاة من العقوبة.
********
قال التّاريخ للبشر : يالله، كم فعل بكم المستبدّون عبر السّنين، وكم دفعوا بكم إلى الخلف،وكم أورثوكم من ألم، وقد كانت الحقيقة ذاتها، وكان المنطق عينُهُ يكذّب دعواهم و ما يزال. لكنّني آليتُ أن أقضي عليهم ولو بعد حين.
المفضلات