إبراهيم كشت - يمارسون عملهم في قاعة كبيرة ، تغُصُّ بالمراجعين ، وتعجّ بالموظّفين ، فيها مكاتب حديديّة مرشوقة كيفما اتّفق، مطليّة بلون رمادي باهت، لها مظهر جاف بارد، يبعث في النفس قشعريرة أيّام الشّتاء، ويورث شعوراً صحراوّيا بالقيظ والرّمضاء أيام الصيف.
وخلف تلك المكاتب ، خزائن حديديّة لها اللّون الشّاحب ذاته ، وقد لحق بجوانبها الصّدأ والتّآكل. وفي هذه الخزائن ملفّات كرتونية ضخمة، تبدو هرمة متداعية، وتضمّ كل واحدة منها بين دفّتيها أوراقاً مالَ لونها إلى الاصفرار، وقد انفلتت بعض هذه الأوراق من جذورها ، فتدلّت أطرافها خارج دفّتي الملفّ بشكل متهلهل متهافت، يضفي على صورتها لوناً من الفوضى والتّبعثر.
********
على الأرض سجّادة ذات لون أغبر كالح، اهترأت إلى حدّ التآكل، وفاضت بالغبار الذي امتصّته على مرّ الأيام ، فلا تفتأ تنفث بعضاً من هذا الغبار كلّما وطئتها قدم.
وهواء جو القاعة فاسد ، له رائحة تحاكي رائحة مستنقع راكد ذي ماء آسن، وثمّة في الأفق القريب غمائم من دخان السّجائر تتلوّى وتتموّج، ثمّ تتكاثف لتصير سُحُباً رصاصيّة كأنمّا تنذر بأمطار حمضيّة ملوّثة، ناهيك عن أنفاس المراجعين المتزاحمين الّتي تشبه الأطعمة الفاسدة في رائحتها ، وتبعث في النّفس شعوراً بالغثيان ورغبة حادّة بالتّقيّؤ .
أمّا الجدران ، فرّبما كان لها ذات يوم لون أبيض، لكنّها باتت اليوم « مُشحْبرة « لتبدو بلون أشبه بلون الأثاث، وهي جدران معرّاة، جرداء، لا لوحة تزيّنها، ولا صورة تجمّلها، ليس عليها من شيء، خلا أوراق ملصقة خلف بعض المكاتب، وقد دوّنت عليها بخط رديء غليظ أمثال وأقوال تليدة وبليدة .
********
ويلمح الناظرُ – إن هو سرّحَ النّظر في القاعة – بقايا شجيرة غُرِستْ في وعاء فخاري كبير في إحدى الزّوايا، تحجّرت تربتها وتناثرت فوقها أعقاب السّجائر، لا شكّ أنّ تلك الشجيرة البائسة كانت في سالف الأيام خضِرة نضِرة، لكنّ اليباس غزاها، فحوّل فروعها وساقها إلى عيدان عجفاء نخرة ، تقولُ للمتأمّل إنّ الحياة والنّمو والاستمرار تتطلّب شروطا وظروفا غير متوافرة في بيئتها المحيطة .
وثمة جهاز كمبيوتر شخصي ، بدا قديماً ، « تعزف « عليه موظّفة « قديمة « لحناً ناشزاً، فهي تضغط أزراره بطريقة (النقر) العصبي المتوتِّر ، لينتج عن ذلك صوت يمتزج بأصوات المراجعين المرتفعة ، فإذا بها تتّحد في صخب وجَلَبَة تنفِر منها الطّبلة والمطرقة والسِّندان في أذن السّامع .
********
ولست أدري كيف تسلّلت خيوط العتمة، في وضح النّهار إلى هذه القاعة، فثمّة شبابيك، لكنّ زجاجها تعفّر بغبار أسود، و تموّه بالدخان الّذي تنفثه مؤخّرات السّيارات التي تمخر الشارع في الخارج، أو الذي ينفثه المتواجدون في الدّاخل. وثمّة أيضاً مصابيح كهربائية مضاءة ، لكنّها تبعث الضوء شحيحا، حتّى لتبدو في تدلّيها وشحّ إضاءتها كقناديل قديمة كاد أن يستنفذَ الزّيت ذُبالها.
أمّا الموظّفون، فليسوا سوى ظلّ من ظلال صورة القاعة البائسة هذه، وليسوا سوى امتداد لشكل أثاثها، لهم ملامح شاحبة تستمدّ لونها من لون الخزائن والأوراق والملفّات، وفيهم جلافة وجفاء وصلف يعكس البيئة المحيطة بصدق وإخلاص. وجوههم موسومة بكثير من البؤس والتّشاؤم والإحباط والتّطير والمعنويّة الخائرة، وفي لفتاتهم وحركاتهم وإشاراتهم فظاظة وغلظة، وفي كلماتهم القليلة خشونة كخشونة الصّحراء، وفي عيونهم شيء يشبه السماجة والبلادة .
********
ليس للجمال في بيئة العمل هذه من مكان، ولا للذّوق الرّفيع من موضع، وكيف لأحد أن يعيش ساعات كلّ يوم، في مكان تنفر منه حواسّه؟ إلاّ إذا اندمجت تلك الحواسّ بهذه البيئة فأصبحت جزءاً منها !!
المفضلات