ذْكِيرُ الفُضَلاَءِ بِسُلطَانِ العُلَمَاءِ العز بن عبد السلام
قال سلطان العلماء: "فِيمَ المقام بأرض يُستَضعف فيها أهل الشريعة، ويُعتَدى فيها على القضاء؟!"
جرى في عرف الناس وعادتهم أن الفقهاء والعلماء أبعد الناس عن السياسة ومجرى الأحداث، حتى قال بعضهم: "إن العلماء من أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها من غيرهم", وقال ابن خلدون في مقدمته: "وسبب عدم حضورهم -أي العلماء - لأهل الحل والعقد؛ لأنه ليس عندهم قوة يقتدر بها على حل أو عقد، وأما شوراهم النظرية فهذا موجود في الكتب من الفتاوى".
ولا شك أن هذا الكلام ناتج عن واقع ومن فترات من تاريخ الأمة اعتزل فيها بعض العلماء السياسة -وما يزال الأمر قائماً-، وتركوا فراغاً ملأه الآخر، وسلطان العلماء الذي نتحدث عنه كَسَر هذه القاعدة واستمسك بالأصل وخلّد أمثلة تكتب بماء الذهب فيما ينبغي أن يكون عليه عالم الشريعة إزاء ما يقع في الأمة من وقائع وأحداث.
وما أحوج علماء الأمة في هذه الظروف الحالكة لتذكُّر سِيَر إخوانهم السابقين، وتأمُّل مواقفهم للاستبصار والاقتداء بهم، والسير على نهجهم، ولا سيما من كان له منهم أثر بارز وبصمات واضحة في حياة الأمة الإسلامية؛ كسلطان العلماء ورادع السلاطين، العز بن عبد السلام، ذلك العالم المستنير، والسياسي البارع، والناسك الزاهد.
ولد سلطان العلماء عبد العزيز بن عبد السلام (المعروف بالعز بن عبد السلام، وسلطان العلماء) سنة: 577 هـ /1181 م في بلدة: "كفر الماء" في محافظة إربد شمال الأردن، ثم رحل إلى دمشق ونشأ بها، ثم رحل إلى مصر بعد أن تجاوز الستين من عمره، وتوفي سنة: 660هـ.
ولنتأمل بعض الأحداث التي شهدها سلطان العلماء، ونستلهم موقفه منها باعتباره عالماً من علماء الشريعة الموقِّعين؛ لعل بعض المبلِّغين عن رب العالمين من علماء المسلمين يتخذونه قدوة فيما يموج في الأمة اليوم من أحداث.
ورغم المناصب الهامة التي تولاّها سلطان العلماء في مصر ومن قبل الشام؛ فهو لم يسعَ إليها، وإنما هي التي سعتْ إليه لجدارته بها، ولم يكن يبالي بها؛ فقد كان يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل المواقف، لا تمنعه هيبة أحد من ذلك.
جمع بين العلم والشجاعة وفهم الشريعة وفقه الواقع والاطلاع على قضايا الأمة، وتجلى ذلك في مواقف له؛ منها: موقفه من مصالحة سلطان دمشق التتار؛ فأنكر عليه العز بن عبد السلام وقطع عنه الخطبة، وأفتى بحرمة بيع السلاح لهم مع سكوت علماء وقته عن ذلك، وعندما أراد سلطان مصر المنصور بن العز التركي أخذ أموال التجار والناس لصدّ العدوان الصليبي، قال له العز: "إن لم يبقَ في بيت المال شيء ثم أنفقتم أموالكم الخاصة وحواصلكم المليئة بالذهب وغيرها من الذهب والفضة والزينة في قصوركم، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس، سوى آلات الحرب، بحيث لم يبقَ للجندي سوى فرسه التي يركبها؛ ساغ للحاكم أن يأخذ ما يشاء من أموال الرعيّة في دفع الأعداء عنهم؛ لأنه إذا دهم العدو البلاء وجب على الناس كلهم دفعه".
هذا، وقد عايش أحداثاً جساماً ومراحل خطيرة مرّت بالأمة الإسلامية، من ذلك: انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وبعض حملات الصليبيين على مصر وفلسطين، وعايش الهجوم التتري على الخلافة العباسية في بغداد، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
وعايش تفتُّت الدولة الأيوبية وانقسامها إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدُويلة في مصر، ودُويلة في دمشق، ودُويلة في حلب، وأخرى في حماة، وأخرى في حمص. وبين حكام هذه الدُّويلات تُعشّش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفّزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
وإزاء هذه الأحداث كلها ما كان لسلطان العلماء أن يقف متفرّجاً أو يطلب إذناً من أحد ليتحدث في شأن من شؤون الأمة وقضاياها المصيرية، بل دعا على المنابر، وفي مجالس الوعظ، وذكّر القادة ونصحهم، وكان لا يخشى في الله لومة لائم.. ومما يُذكر عنه: أن الملك الصالح إسماعيل الأيوبي تصالح مع الصليبيين على أن يُسلّم لهم بعض المدن من حصون المسلمين الهامة مقابل أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب! فأنكر سلطان العلماء العز بن عبد السلام عليه ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب الصالح إسماعيل منه، وخرج العز مغاضباً إلى مصر (639هـ) فأرسل إليه الصالح أحد أعوانه يتلطف به في العود إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتُقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم وإبائه: "يا مسكين، ما أرضاه يُقبّل يدي فضلاً أن أُقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم".
انتقل العز بعدها إلى مصر، فرحّب به أهلُها؛ ولا سيما الملك الصالح نجم الدين، الذي ولاّه مناصب هامة؛ كالخطابة والقضاء، "وكان أول ما لاحظه بعد تولّيه القضاء قيام الأمراء المماليك المملوكين للدولة الإسلامية بالبيع والشراء وقبض الأثمان، وهو ما يتعارض مع الشرع؛ إذ إنهم في الأصل مملوكون لا يحقّ لهم البيع والشراء والزواج من حرائر نساء مصر، فكان لا يُمضي لهم بيعاً ولا شراءً، حتى تكالبوا عليه وشكوه إلى الملك الصالح الذي لم تُعجبه فتوى الشيخ العز، فذهب إلى الشيخ يسأله أن يُعدّل من فتواه؛ فطلب منه الشيخ ألاّ يتدخل في القضاء فليس هذا للسلطان، فإن شاء أن يتدخل فالشيخ يقيل نفسه".
إلا أن السلطان لم يُذعن لحكم الشيخ، فأرسل إليه من يتلطف إليه، وبعد إصرار الشيخ أخبره الرسول أن السلطان لن يسمح ببيع الأمراء، وأمر السلطان واجب، وهو فوق قضاء الشيخ عز الدين! وعلى أية حال فليس للشيخ أن يتدخل في أمور الدولة فشؤون الأمراء لا تتعلق به، بل بالسلطان وحده!
فأنكر الشيخ تدخل السلطان في القضاء، وقام فجمع أمتعته ووضعها على حمار، ووضع أهله على حمير أخرى، وساق الحمير ماشياً! إلى أين يا شيخ؟! قال: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فِيمَ المقام بأرض يُستَضعف فيها أهل الشريعة، ويُعتدى فيها على القضاء؟!"
وذهب الناس وراءه وتبعه العامة والخاصة، العلماء والصالحون، والتجار والنساء والصبيان، في مشهد رهيب حضره جمٌّع غفير؛ وخرج الملك الصالح مسرعاً ولحق بالعز وأدركه في الطريق وترضّاه، وطلب منه أن يعود ويُنفذ حكم الله، فتمّ له ذلك. واشتهر العز بعدها بأنه: "بائع الملوك". فازداد الأمراء المماليك غضباً وتآمروا على قتل الشيخ مرة أخرى وفشلوا، بل وتاب من بعثوهم لقتله على يديه وصلّوا صلاة توبة وكان هو إمامهم.
وكانت للعز مواقف عديدة وطريفة، منها ما يتعلق بالعامة، ومنها ما يتعلق بالخاصة؛ ومن مواقف سلطان العلماء الطريفة: أنه عندما كان في دمشق حصل غلاءٌ شديد حتى بيعت البساتين بأسعار زهيدة جدّاً لشدة الغلاء فقالت له زوجته: خُذْ هذا المصاغ واشترِ لنا بستاناً نتنزّه فيه ونستروح فيه؟ فأخذ الشيخ مصاغها ثم تصدّق به على الفقراء، فلما عاد قالت له: اشتريت البستان؟ قال لها: نعم، اشتريت لك بستاناً في الجنة، تصدقتُ بثمنه على الفقراء. فقالت له: جزاك الله عني خيراً.
منقول .. مجلة الفرقان / عبد الكريم القلالي / أستاذ بمدرسة الإمام مالك بتطوان، حاصل على شهادة العالمية، خريج المدرسة العليا للأساتذة، عضو رابطة الكتاب والأدباء العرب
المفضلات