بسم الله الرحمن الرحيم
الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين قال المصنف بن تيمية -رحمه الله- -تعالى-: "وقوله -سبحانه- ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾1 وقوله -سبحانه-: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾2 وقوله: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾3 .
إحاطة علمه بجميع مخلوقاته
وقوله: ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾4 وقوله: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾5 وقوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾6 وقوله: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾7 وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾8 .
........................................ ........................................ ........................................ ..........
ومن النصوص القرآنية المشتملة على أسماء الرب وصفاته التي فيها النفي والإثبات مما يدخل في الجملة المتقدمة ما وصف الله به نفسه في هذه الآيات التي منها قوله -تعالى-: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾1 فهذه الآية فيها إثبات أربعة أسماء من أسمائه الحسنى. الأول والآخر والظاهر والباطن.
وأحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقوله إذا أوى إلى فراشه: « اللهم رب السماوات السبع، اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أو كل ذي شر أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين واغننا من فضلك »9 .
فهذا أحسن ما قيل في تفسير هذه الأسماء الأول: هذا اسم من أسمائه هو الأول يعني المتقدم على كل شيء فكل مخلوق كل ما سوى الله فإنه محدَث بعد أن لم يكن مسبوق. والله -تعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأنه لا بداية لوجوده -سبحانه وتعالى- فهو قديم لكن قديم لم يرد في النصوص فلا يعد من أسمائه -تعالى- لا يقال من أسماء الله القديم لكن معناه صحيح فيصح الإخبار عن الله فيقال: الله قديم نعم. قديم متقدم في وجوده على كل شيء لا بداية لوجوده، فهذا المعنى حق ثابت للرب -سبحانه- لكنه يغني عنه اسمه الأول، فالأول هو من أسماء الله الحسنى.
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء. الآخر يعني هذا الاسم يتضمن دوامه -سبحانه وتعالى- وبقاءه الذي لا نهاية له فكل مخلوق يفنى والله -تعالى- لا يفنى كما يقول الإمام الطحاوي- رحمه الله- في عقيدته: قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء لا يفنى ولا يبيد ولا يمكن -سبحانه وتعالى-. الآخر وما كتب له البقاء مثل الجنة والنار دوامهما وبقاؤهما ليس ذاتيًّا لهما بل بقاؤهما بإبقاء الله لهما، أما بقاء الرب فهو ذاتي لا يجوز عليه الفناء ألبتة.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء فهذان اسمان دالان على أزليته وأبديته يعني على دوام وجوده في الماضي والمستقبل وأنت الظاهر فليس فوقك شيء الظاهر يعني العالي الظهور من معانيه العلو فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء هو فوقه كل شيء وهو القاهر فوق عباده وليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء فبصره نافذ لجميع المخلوقات وسمعه واسع لجميع الأصوات وعلمه محيط بكل شيء إذًا لا يحجب سمعه شيء ولا يحجب بصره حجاب بصره نافذ يرى عباده وعلمه محيط بكل شيء. ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾10 "الباطن" وأنت الباطن فليس دونك شيء وليس معنى الباطن أنه -تعالى- داخل في المخلوقات لا، بل هو بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته نستمر.. نعم..
وقوله -تعالى-: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾2 تقدم ذكر هذا الاسم. "توكل" أمر من الله لنبيه ولسائر المؤمنين ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ ﴾2 اعتمد على الحي وفوض أمرك إليه على الحي الذي لا يموت فمن توكل عليه فهو حسبه ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾11﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾12 والشاهد الحي، فالحي اسم من أسمائه والحياة صفة من صفاته وقوله: "لا يموت" نفي مؤكد لكمال حياته، فحياته حياة لا يطرأ عليها الموت وقوله: ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾13 اسمان من أسمائه الحسنى دالان على كمال حكمته وعلى جلال خبرته فهو خبير بدقائق الأشياء وهو أخص في المعنى من اسمه العليم ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ﴾14 وكأن هذه الجمل تفصيل لمضمون اسمه الخبير و ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ﴾15 ماذا يلج ماذا يدخل في الأرض ؟.
ما صيغة عموم يعني يعلم كل ما يلج في الأرض من ماذا؟ من الأحياء من الحيوانات ومن النباتات ومن الأناس كل ما يدخل ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ﴾15 وما يدخل فيها من الجمادات كالمياه التي تغور في الأرض الماء يلج في الأرض وتبتلعه الأرض. الحيوانات لها مساكن تأوي إليها في الأرض ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾15 من كل شيء سبحان الله العظيم ﴿ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾15 من الملائكة ومن الأمر الذي ينزل من عنده ومن الأقدار ﴿ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾15 .
يعلم هذا كله ففي هذا وهكذا قوله -تعالى-: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾5 عنده خزائن الغيب التي استأثر بعلمها وهي أو منها الخمس التي لا يعلمها إلا الله ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾16 فهذه خمس تفرد الله بعلمها لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ ﴾5 .
"ما" صيغة عموم أي كل ما في البر الله يعلمه ويعلم ما في البر والبحر يعني وما في البحر يعلم ما في البحر. عام ما فيه من الحيوانات والنباتات التي لا يحصيها إلا خالقها والجمادات ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴾5 يشمل كل رطب ويابس؛ لأن هذه كلها نكرات في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تعم ﴿ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾5 .
كل هذه الدقائق وكل هذه المخلوقات كلها معلومة للرب والله محيط بها وهي أيضًا مثبتة في الكتاب المبين -كتاب المقادير- ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾5 والآية الأخيرة في هذا الموضوع ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾6 أنثى من بني آدم أو غيرهم من الأحياء وما تحمل من أنثى. أيُّ أنثى ولا تضع إلا بعلمه ﴿ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ﴾6 كل ذلك قد أحاط به علمه وكتابه.
فهذه الآيات.. كل هذه الآيات.. من سورة الحديد وسبأ والأنعام وفاطر. كل هذه الآيات ونحوها دالة على إثبات علمه -سبحانه وتعالى- وأنه الموصوف بالعلم المحيط بكل شيء فهو -تعالى- العليم، والعلم صفته فهو عليم بعلمه وهو -تعالى- علمه لا يعزب عنه شيء ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾17 وفيها دليل على إحاطة علمه بكل صغير وكبير بالجزئيات وبدقائق المخلوقات خلافًا للملاحدة الذين يقولون: إنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وجودها أو لا يعلم الجزئيات، وإنما يعلم المعاني الكلية.
وفي هذه الآيات رد على من قال: إنه لا يعلم الشيء إلا بعد وجوده أولًا يعلم الجزئيات بل يعلم -سبحانه وتعالى- ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف يكون كما قال -تعالى- ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾18 والمعطِّلة كالجهمية والمعتزلة والفلاسفة ينفون حقيقة العلم عن الله ينفون صفة العلم، وهذا إلحاد في أسماء الله -تعالى- وصفاته وتنقص لرب العالمين، أئذا كان المخلوق يوصف بالعلم فكيف لا يوصف الخالق وهو أحق بكل كمال؟ فعلمه -تعالى- ثابت بالعقل وبالسمع يعني بالعقل وبالنصوص الشرعية.
وقد نبه -سبحانه وتعالى- على الدليل العقلي في مواضعَ منها قوله -تعالى-: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾19 إذًا وجود هذه المخلوقات في غاية من الإحكام دليل على علمه ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾19 وأهل العلم والإيمان وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه فيؤمنون بما في هذه الآيات من الأسماء الحسنى والصفات العليا فيثبتون علمه بالأشياء قبل وجودها ويثبتون علمه بالجزئيات ويؤمنون بأنه -تعالى- عليم.
وأن هذا الاسم دال على معنى فهو عليم بعلم وهو عليم، والعلم صفته -سبحانه وتعالى- فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا كما في الآية الأخيرة التي في سورة الطلاق ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾7 في إثبات صفة القدرة ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾7 هذا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله،
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك يحفظه الله
1 : سورة الحديد (سورة رقم: 57)؛ آية رقم:3
2 : سورة الفرقان (سورة رقم: 25)؛ آية رقم:58
3 : سورة التحريم (سورة رقم: 66)؛ آية رقم:2
4 : سورة سبأ (سورة رقم: 34)؛ آية رقم:1-2
5 : سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:59
6 : سورة فاطر (سورة رقم: 35)؛ آية رقم:11
7 : سورة الطلاق (سورة رقم: 65)؛ آية رقم:12
8 : سورة الذاريات (سورة رقم: 51)؛ آية رقم:58
9 : مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي : الدعوات (3481) , وأبو داود : الأدب (5051) , وابن ماجه : الدعاء (3831) , وأحمد (2/536).
10 : سورة الحج (سورة رقم: 22)؛ آية رقم:70
11 : سورة الطلاق (سورة رقم: 65)؛ آية رقم:3
12 : سورة المائدة (سورة رقم: 5)؛ آية رقم:23
13 : سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:18
14 : سورة سبأ (سورة رقم: 34)؛ آية رقم:1 - 2
15 : سورة سبأ (سورة رقم: 34)؛ آية رقم:2
16 : سورة لقمان (سورة رقم: 31)؛ آية رقم:34
17 : سورة سبأ (سورة رقم: 34)؛ آية رقم:3
18 : سورة الأنعام (سورة رقم: 6)؛ آية رقم:28
19 : سورة الملك (سورة رقم: 67)؛ آية رقم:14
المفضلات