الفصل الرابع الموقف من وعد الله بين تصديق المؤمنين وتكذيب المنافقين
ينظر المؤمنون إلى وعد الله نظرة إيمانية إيجابية، فيصدقون به، ويوقنون بتحققه ووقوعه، ويزيدهم ذلك إيماناً وتسليماً.
أما المنافقون فإن نظرتهم إلى وعد الله سلبية متشككة، لأنهم يكذّبون به، وينكرون وقوعه.
نظرة المؤمنين الإيجابية ناتجة عن إيمانهم بالله، وبأنه لا يخلف الميعاد، وأن وعده حق وصدق، وأنه لا ناقض له. ونظرة المنافقين السلبية ناتجة عن كفرهم وشكهم، وعدم تصورهم لمظاهر قوة الله وقدرته، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
الجوّ العام في غزوة الأحزاب:
وُجدَت النظرتان في غزوة الأحزاب، التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة، حيث عمل زعيم يهود بني النضير –(حُيَيُّ بن أخطب)- على تهييج كفار قريش لغزو المدينة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها.. واتفق كفار قريش مع كفار غطفان على التوجه إلى المدينة لهذه الغاية، ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أمر بحفر الخندق حول المدينة.
ولما حاصر أحزاب الكفر المدينة، أقنع (حيي بن أخطب) صاحبه (كعب بن أسد) زعيم يهود بني قريظة على نقض عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والانضمام إلى تحالف أحزاب الكفر!.
واشتد الأمر على المسلمين، وعظُمَ الخطر بتحالف قريش وغطفان واليهود، وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تثبيت المسلمين، ورفع معنوياتهم، وثبت المؤمنون المجاهدون على الحق، واقتدوا في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم، بينما حرص المنافقون على نشر الإشاعات، لإضعاف المجاهدين، وعلى التشكيك بما يقوله ويفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر القرآن موقف المؤمنين وموقف المنافقين، عندما صوّرت آياته الحالة العامة الخطيرة التي عاشها المسلمون في غزوة الأحزاب.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً، إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً) [الأحزاب: 9-14].
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب: 21-23].
ندعو إلى تدبر هذه الآيات، التي تصور الأجواء العامة لغزوة الأحزاب، ومواقف وتحركات أطرافها، ولسنا في معرض تفسيرها هنا.
المؤمنون والزلزال الكبير:
بدأت الآيات بتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم، عندما خلّصهم من جنود الكفار، حيث أرسل عليهم ريحاً وجنوداً من الملائكة، وجعلهم يُؤْثرون الانسحاب للنجاة بأنفسهم.
جاء فريق من الكفار من فوق المسلمين، وهم المشركون من قريش وغطفان، بينما جاء فريق آخر منهم من أسفل، وهم يهود بني قريظة، بعدما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أطبق الكفار على المسلمين من جميع الجوانب.
وتأثر المسلمون بالأحداث، وشعروا بالخطر، وخافوا خوفاً شديداً، يكفي لمعرفة خطورته تدبّر قوله تعالى: (وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً).
زاغت أبصار فريق من المؤمنين من الخوف، وبلغت قلوبهم حناجرهم من شدة الرعب والقلق، وظنوا بالله ظنوناً عديدة، ووقع الزلزال الكبير، الذي هز نفوسهم ومشاعرهم وأعصابهم هزاً عنيفاً، وابتلاهم الله ابتلاء قوياً!.
ولم يستمر الخوف والفزع والرعب والقلق عند المجاهدين إلا فترة قصيرة، تجاوزوها بسرعة، وتغلبوا عليها بفاعلية، إذ سرعان ما عاد إليهم يقينهم وهدوؤهم واطمئنانهم، وقويت عزائمهم وهممهم، فثبتوا وجاهدوا، ووثقوا بوعد الله، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنّ عليهم بالنصر.
الشاكون في وعد الله فريقان:
ذكر الله تثبيط المنافقين للمؤمنين، وشكهم في وعد الله، فقال تعالى: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).
الذين شكوا في وعد الله فريقان:
الفريق الأول: المنافقون: وهم الذين يُخفون في قلوبهم الكفر، ويظهرون أمام المسلمين الإيمان والإسلام، وهؤلاء كفار في الحقيقة.
الفريق الثاني: الذين في قلوبهم مرض، وهم مسلمون ليسوا منافقين، لكنهم ضعفاء الإيمان، ومرض قلوبهم هو الشك والضعف، وسقوط الهمة والعزيمة.
وهؤلاء تأثروا بإشاعات ودعايات المنافقين، وصاروا يرددونها معهم، بهدف إضعاف المسلمين المجاهدين.
أعلن الفريقان –المنافقون ومرضى القلوب- الشك في وعد الله، وقالوا: (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).
أي: أنتم أيها المسلمون، تزعمون أن الله وعدكم النصر على أعدائكم، ونجاتكم من الخطر، وأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بشّركم بقرب تحققه ووقوعه على أرض الواقع! لا تحلموا بذلك، فإنه لن يتحقق على أرض الواقع، ووعد الله ورسوله لكم ما هو إلا غرور وخداع، وأوهام وأمان خيالية!.
وهذا الكلام الخطير من المنافقين ومرضى القلوب، شكٌّ في تحقق وعد الله، وتكذيب بوقوعه، وتشكيك المؤمنين به.. ووعد الله بالنسبة لهم ليس حقاً، وليس صدقاً! وهذا تكذيب صريح منهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات