الفصل الثاني من أصدق من الله حديثاً
يوقن المؤمن بأن الله ينجز وعده، ولا يخلف الميعاد، لأنه يوقن أنه لا أحد أصدق من الله حديثاً وقولاً.
والله هو الأصدق حديثاً.. حقيقة إيمانية قاطعة، قررتها آيات عديدة من القرآن، نقف معها فيما يلي وقفة سريعة:
1- من سورة النساء:
قال تعالى: (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً) [النساء:87].
تبدأ الآية بتقرير توحيد الألوهية، فالله سبحانه لا إله إلا هو، ثم تقرر أن الله سيجمع الناس جميعاً يوم القيامة، وأن ذلك اليوم آت لا ريب فيه.
وبما أن الله أخبر عن مجيء ذلك اليوم، فإنه آت بدون شك أو ريب، لأن الله تعالى صادق في حديثه، ولا أحد أصدق حديثاً من الله.
وصيغت هذه الحقيقة في الآية بأسلوب الاستفهام: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً)؟ والاستفهام هنا تقريري، والحقيقة المقررة أنه لا أحد أصدق حديثاً من الله.
ومن السنة للمسلم أنه عندما يقرأ الآية وينطق بالاستفهام أن يجيب: لا أحد أصدق حديثاً من الله!.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122].
وعد الله المؤمنين المتقين الذين يعملون الصالحات، أن يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأن يجعلهم منعمين، خالدين فيها أبداً.
وهذا الوعد الإلهي حق، أي: متحقق واقع لا محالة، مثل باقي وعود الله الحقة.
وجاء هذا الوعد المتحقق في كلام الله وحديثه وقوله، وقول الله صادق، ولا أحد أصدق قولاً من الله.
والاستفهام في الآية تقريري، وعندما يقرؤه المؤمن أو يسمعه من غيره، يجيب قائلاً: لا أحد أصدق من الله قولاً!.
وندعو إلى الالتفات إلى ورود الاستفهامين التقريريّيْن في سورة النساء: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً)؟ و(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)؟.
2- من سورة الزمر:
قال تعالى: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [الزمر: 74].
أخبرت الآية عن ما سيقوله المؤمنون، عندما يدخلهم الله الجنة، وينعمهم بنعيمها، حيث سيحمدون الله ويشكرونه، على إنجاز وعده لهم، فقد وعدهم في الدنيا الجنة ونعيمها، إن استقاموا على طاعته، ونفّذوا في الدنيا أحكامه، طالبين رضوانه، متطلعين إلى نيل موعوده.
وها هو سبحانه يَصدُقُهم الوعد، ويدخلهم الجنة برحمته وفضله، وها هم يرثون الجنة، ويتبوؤون منها حيث شاؤوا.
وصدق الوعد بمعنى تحققه في عالم الواقع، وإنجازه للموعودين به، فالوعد له صورة نظرية، وهي ذكره في آيات القرآن، وتبشير المؤمنين به، وله صورة عملية واقعية، وهي إنفاذه وإمضاؤه يوم القيامة، حيث يتنعّم المؤمنون في الجنة.
والله يصدق وعده لأنه لا يخلف الميعاد!.
3- من سورة الأنبياء:
قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء: 7-9].
يخبر الله أنه أرسل رسلاً رجالاً، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصبروا على ما لاقوه من قومهم، من كفر وتكذيب وحرب، وقد وعدهم الله النصر على أعدائهم، ولما انتهت دعوتهم مع قومهم، صدقهم الله الوعد، فأنجاهم مع أتباعهم المؤمنين، وأهلك الأعداء الكافرين.
ومعنى (صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ): أنجزنا لهم ما وعدناهم، فصدق الوعد: تطبيقه، وتحويله إلى واقع، ونقله من دائرة الكلام النظري إلى حالة الوجود العملي.
4- من سورة آل عمران:
قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ...)[آل عمران: 152].
هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة أحد، التي جرى فيها ما جرى للمسلمين، حيث انتصر المسلمون في الجولة الأولى منها، ولما ارتكبوا مخالفتهم بحسن نية، أدبهم الله، ورجع المشركون عليهم، وأصابوا منهم القتلى والجرحى، وتعلموا من ذلك الدروس والعبر!.
يخبر الله المسلمين في هذه الآية أنه: (صدقهم وعده) وتفسير هذه الجملة في الجملة التي تليها مباشرة: (إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ...)، ومعناها: إذ تقتلون المشركين بإذن الله.
وهذه إشارة إلى الجولة الأولى من غزوة أحد، التي لم تستمر إلا فترة قصيرة جداً، حيث قتلوا من قتلوا من المشركين، وانهزم المشركون أمامهم.
وصدقهم الله وعده في هذه الجولة بأن سلطهم على المشركين، وجعلهم يغلبونهم ويهزمونهم، ونصرهم عليهم، وقد وعدهم النصر في آيات عديدة قبل غزوة أحد، وتحقق هذا الوعد عملياً على أرض أحد، في المرحلة الأولى من المعركة.
وسمي هذا التحقق العملي صدقاً وتصديقاً للوعد.
4- من سورة الأحزاب:
قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب: 22].
تخبر الآية عن موقف المؤمنين من هجوم الكفار عليهم في غزوة الأحزاب، من العرب المشركين واليهود الماكرين والمنافقين، فلما رأوا المدينة محاصرة من أحزاب الكفر، لم يُحبطوا أو يُرعبوا، وإنما قالوا: هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.. وازدادوا إيماناً بالله، وتصديقاً بكلامه، وتسليماً لقضائه، وثباتاً على قتال أعدائه.
لما رأوا أحزاب الكافرين، تذكّروا ما وعدهم الله إياه، حيث وعدهم قتال الكفار لهم، وهجومهم عليهم، ثم وعدهم النصر عليهم، إن نصروا الله وثبتوا في القتال، وكان هجوم الأحزاب عليهم تصديقاً من الله لهم، حيث تحوّل به الوعد من الصورة النظرية إلى الصورة العملية الواقعية، ولذلك قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله.
تدل هذه الآيات –وغيرها كثير في القرآن- على أن الله يَصْدُقُ عباده وعوده التي يعدهم إياها، وهذا الصدق هو تحويل تلك الوعود من صورتها النظرية (الوعدية) إلى صورتها العملية التطبيقية الواقعية.
والله يفعل ذلك لأنه هو الأصدق حديثاً، والأصدق قولاً ووعداً، وهو لا يخلف الميعاد، سبحانه وتعالى.
* * *
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات