الفصل الثالث الوعد القرآني في سورة يونس
سورة يونس مكية، أُنزلت في الفترة الحرجة الشديدة نفسها، التي مرت بها الدعوة الإسلامية في مكة، ولذلك هدفت إلى تسلية ومواساة الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما يجده من أذى قومه، وإلى تقديم البشرى والأمل، للمسلمين المستضعفين، ورفع هممهم وعزائمهم، ليوقنوا يقيناً جازماً بأن الأمل لهم، والمستقبل لدينهم.
وتضمنت آيات السورة وعداً قرآنياً بالتمكين للمسلمين، ووعيداً وتهديداً بالهزيمة والخسارة للكافرين. ومن هذه الآيات الواعدة ما يلي:
سنة الله في إهلاك الظالمين واستخلاف المؤمنين:
أولاً- قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس: 13-14].
تتحدث الآيتان عن السنة الربانية في إهلاك الظالمين الكافرين المجرمين، والسنة الربانية في استخلاف الأمم وتوارثها، وتداول الأيام بينها.
فالله أهلك الظالمين المجرمين السابقين، لأنهم كفروا بالحق، وكذبوا الرسل، وظلموا الناس، واضطهدوا المؤمنين المستضعفين.
والله جعل الأجيال الجديدة خلائف في الأرض، من بعد تدمير وإهلاك الظالمين، وابتلاهم بالتمكين، لينظر كيف يعملون. فإن آمنوا واستقاموا، حافظوا على الإنعام الرباني، وأدام الله عليهم التمكين والتأييد، وإن طغوا وأجرموا حقت عليهم سنة الله، وأهلكهم كما أهلك الظالمين من قبلهم.
وهذا وعد للمسلمين بالنصر والتمكين، ووعيد لكفار قريش بالإذلال والهزيمة.. وقد حقق الله للمؤمنين الصابرين وعده بالنصر، وأوقع بالكافرين وعيده وتهديده، بما حصل في الغزوات الجهادية الإسلامية.
تحدي الكفار بالقرآن:
ثانياً- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس: 37-39].
تقرر الآية الأولى أن القرآن كلام الله، وأنه لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، وهو مصدِّق للكتب الربانية السابقة كالتوراة والإنجيل، وقد فصّل الله فيه كل شيء، وكل ما فيه حق وصدق وصواب.
وتبطل الآية الثانية مزاعم الكفار ضد القرآن، فهم يتّهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه افترى القرآن واختلقه، ونسبه إلى الله افتراء..
ولذلك تحدّتهم الآية بأن طلبت منهم الإتيان بسورة هي مثل القرآن في فصاحته وبلاغته وأسلوبه، والاستعانة بمن يريدون ويستطيعون، فإن نجحوا في ذلك، وقدموا السورة المطلوبة، كانوا صادقين في كلامهم، وكان القرآن مفترى، وليس من عند الله، وإن عجزوا عن ذلك كانوا كاذبين في مزاعمهم، وثبت أن القرآن من عند الله، وأن محمداً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تكذيب الكفار بوعود القرآن:
أما الآية الثالثة فإنها تتضمن تهديداً ووعيداً للكفار بالعقاب، ووعداً مشرقاً للمؤمنين بالنصر.
تصف الآية الكفار بالجهل، الذي دفعهم إلى التكذيب بالقرآن جملة وتفصيلاً: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ).. إنهم لم يحيطوا علماً بالقرآن، ولا بمعانيه ومضامينه، فكيف كذبوا بشيء يجهلونه؟.
ومن الحقائق القرآنية التي لم يحيطوا علماً بها فكذبوها، وعود القرآن بالنصر والتمكين للمسلمين، وبالخسارة والهزيمة للكافرين.. فقد سمعوا آيات قطعت تلك الوعود، فاستبعدوا تحققها، وأنكروا وقوعها، وكذبوا بها، وتساءلوا: هل من الممكن أن يتغلب عليهم المسلمون وهم مستضعفون أمامهم؟ لا يملكون قوة ولا سلطاناً ولا أرضاً؟!.
وترد الآية على تكذيبهم، واستبعادهم تحقق الوعود القرآنية، بقولها: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ). وهذه الجملة وعيد وتهديد لهم، بقرب وقوع العذاب بهم!.
"لما": حرف إطماع، يدل على قرب تحقق وقوع ما بعدها. وهي حرف جزم، يجزم الفعل المضارع بعده، و"يأتهم": مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، أصله "يأتيهم". والضمير "هم" يعود على المشركين، وهو في محل نصب مفعول به مقدّم، و"تأويله": فاعل مؤخر، والضمير في "تأويله" يعود على القرآن.
فمعنى: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ): لم يتم تأويل آيات القرآن الواعدة بانتصار المسلمين، وهزيمة الكافرين، ولذلك كذب الكافرون بها.
معنيان للتأويل في القرآن:
ما معنى التأويل هنا؟.
التأويل بمعنى بيان العاقبة والمآل، أو رد الشيء إلى غايته المرادة منه، وتحديد معناه الصحيح، أو مآله الدقيق.
والتأويل في القرآن له صورتان:
الأولى –صورة نظرية: تقوم على إزالة اللبس والغموض عن الكلام، وذلك بحمله على نص آخر صريح، واضح محكم، ورده إليه. وهذا هو تأويل الآيات المتشابهات القليلة في القرآن، وذلك بإزالة الاشتباه عنها، عن طريق حملها على الآيات المحكمات الكثيرة في القرآن.
الثانية- صورة عملية مستقبلية: وذلك ببيان العاقبة والمآل للآية، فعندما تتحدث الآية عن أمر مستقبلي قادم، يكون حديثها وعداً نظرياً، وعندما يتحقق ذلك الوعد النظري، في صورة عملية واقعية تطبيقية، يكون ذلك الوقوع تأويلاً لها، لأنه به يتحقق مآلها.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات