تابــــــــــــــــــــــع الوعد القرآني في سورة يونس
التأويل العملي للوعود القرآنية بالنصر:
الوعود القرآنية في السور المكية بانتصار الحق وإزهاق الباطل، كانت وعوداً نظرية مجردة، وهذه الوعود تحتاج إلى "تأويل"، أي: تحتاج إلى إنجاز وتنفيذ، وتطبيق على الأرض، فوقوعها على الأرض تأويل عملي لها.
إن الوعد القرآني في قوله تعالى في سورة القمر: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وعد نظري، قطعه القرآن في مكة.. وقد تحقق هذا الوعد في غزوة بدر، فكان وقوعه وتحققه "تأويلاً" له، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فعرفت تأويل الآية يومئذ". وبذلك كان تأويل الآية تحقق مضمونها على الأرض.
إذن معنى قوله تعالى: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ): لم تتحقق حتى الآن الوعود القرآنية الواعدة، ولم يتم تأويلها العملي، ولذلك كذب بها الكافرون.
واختيار حرف الإطماع "لما" مقصود، لأنه يدل على قرب مجيء ذلك التأويل، وقد أتاهم تأويل تلك الوعود القرآنية في غزوة بدر، وما بعدها.
والدليل على أن هذا هو معنى: (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) قول الآية بعد ذلك: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).
أي: كما كذب كفار مكة بما لم يحيطوا بعلمه من معاني القرآن، ووعوده وأخباره المستقبلية، كذلك كذب الكفار السابقين بما أخبرهم به رسلهم.
فماذا فعل الله بالكفار المكذبين السابقين؟ لقد أهلكهم ودمرهم، وبذلك أتاهم تأويل الأخبار والوعود التي كذبوا بها.. وبذلك كانت عاقبة الظالمين السابقين سيئة. فانظر كيف كانت عاقبتهم، وخذ منها العبرة.
وهذا تهديد للكفار المكذبين بالقرآن، بأنه سيأتيهم تأويل ما كذبوا به، كما أتى التأويل من سبقهم من المكذبين.
وهذا وعد للمؤمنين المستضعفين في مكة بالنصر والتمكين، لأن تأويل آيات الوعيد والتهديد للكفار، معناه انتصار المسلمين عليهم.. وهذا ما حصل في الغزوات بعد الهجرة، التي انتهت بفتح مكة.
انتظار الكفار العذاب:
ثالثاً- قوله تعالى: (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس: 102-103].
في هاتين الآيتين وعيد آخر للكافرين بالعذاب، في مقابل وعد جديد للمؤمنين بالنجاة والفرَج.
ماذا ينتظر الكفار المكذبون؟ وماذا يتوقعون أن يحصل لهم؟ وهم يعذِّبون المؤمنين، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحاربون الإسلام!.
لن يحصل لهم إلا مثل الذي حصل للكفار المكذبين المحاربين من قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون، لأن هذه سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل: كل من حارب الحق فهو مهزوم لا محالة، وتنتظره في النهاية عاقبة سيئة مظلمة. فكفار قريش يسيرون نحو هذه العاقبة، التي وصلها الذين من قبلهم!.
ولذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: (فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
أي: انتظروا أن تروا أياماً سوداء قاسية، مثل أيام الكفار الذين من قبلكم، وانتظروا وقوع العذاب بكم، فإنه آتيكم لا محالة، وانتظروا انتصار المسلمين عليكم، وانتظروا إذلالكم وهزيمتكم.
وأنا معكم من المنتظرين، أنتظر تحقق هذا كله، تحقق الجانب السلبي عليكم، وتحقق الجانب الإيجابي لي ولأتباعي..
انتظار المؤمنين النصر والنجاة:
وقد ذكرت الآية التالية ماذا ينتظر المؤمنون، وماذا يأملون من الخير عند الله، حيث يبشر الله المؤمنين بالنجاة والخلاص والأمان والفوز: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ).
وهذا واضح في القصص القرآني، الذي كان يحدد هذه النهاية لقصة كل نبي مع قومه، من نوح إلى هود وصالح وشعيب وغيرهم، عليهم الصلاة والسلام، فالله كان ينهي المواجهة بين الرسول وقومه، بإهلاك الكفار المعادين، وإنجاء الرسول وأتباعه. فهذه سنة الله التي لا تتخلف.
وقطع الله وعداً جازماً بإنجاء المؤمنين، على اختلاف الزمان والمكان: (كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ).
الله لا يخلف الميعاد، ووعده ناجز نافذ، فإنجاء المؤمنين عند إهلاك الكافرين أمر قدّره الله، وأنفذه وأمضاه، وتفضل على المؤمنين بإخبارهم أنه حق عليه، وجعله الله حقاً عليه تكرماً منه وفضلاً سبحانه.
وتحقق ما في الآيتين من وعيد وتهديد للكافرين، ووعد مشرق للمؤمنين، وذلك في الغزوات الإسلامية بعد الهجرة.
وبذلك تحقق ما كان ينتظره رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير له وشر لأعدائه: (قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
بهذا اليقين الجازم بتحقق وعد الله، وانتظار تأويله في عالم الواقع، يتعامل المسلمون المجاهدون المعاصرون مع أعدائهم من اليهود والأمريكان وغيرهم!
الاتباع والصبر حتى يتحقق الوعد:
رابعاً- قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ، وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 108-109].
هاتان الآيتان خاتمة سورة يونس المكية، التي تريد تثبيت المؤمنين على الحق، وملء قلوبهم بالأمل واليقين، وتقديم الوعود الصادقة لهم بالنصر والتمكين.
يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ دعوته للناس جميعاً، وأن يقيم عليهم الحجة، ويقول لهم: أنا رسول الله إليكم جميعا، وقد قدمت لكم الحق، وأقمت عليه الأدلة والبراهين، وبذلك انتهت مهمتي عندكم، والخطوة التالية عليكم، فإذا قبلتم الهدى وآمنتم؛ أفلحتم وفزتم، وإن رفضتموه كنتم الخاسرين، وأنا لست وكيلاً عليكم، ولا يجب علي قذف الإيمان في قلوبكم!.
ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التبليغ والبيان وإقامة الحجة؟ ماذا يفعل وهو ينتظر تحقق موعود الله؟.
كان ينتظر تحقق موعود الله، عندما قال لهم: (فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) وهو في فترة الانتظار ينفذ ويطبق قول الله له: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
لقد أمره الله بأمرين:
الأول: اتباع شرع الله: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). وذلك بتنفيذ الأوامر والتوجيهات، التي أنزلها الله في القرآن، والمتعلقة بالشعائر التعبدية، والمشاعر الأخلاقية، والحركة الدعوية، ومواجهة الأعداء، والصمود أمامهم.
الثاني: الصبر (وَاصْبِرْ) وهو صبر عام شامل مطلق، يقدم زاداً للمؤمنين، يثبتهم على الحق، ويدفعهم إلى تجاوز مرحلة انتظار النصر بعزيمة وهمة وأمل ويقين.
وسوف يحكم الله بين المؤمنين والكافرين، وينهي المواجهة بينهم، ويحقق وعده للمؤمنين، ويوقع وعيده للكافرين، وهو سبحانه خير الحاكمين.
زادُنا ونحن ننتظر تحقيق وعود الله لنا بالنصر، تنفيذ الأمرين المذكورين في الآية: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ).. الاتباع الجاد الصادق لشرع اله، والصبر الجميل، والانتظار الإيجابي، المقرون بالبشرى والأمل، والجهد والعمل.
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات