الفصل السادس الوعد القرآني في سورة إبراهيم
سورة إبراهيم مكية، أُنزلت في الفترة الحرجة نفسها التي تحدثنا عنها من قبل، وهي تهدف إلى ما هدفت إليه السور التي تحدثنا عنها، سور الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف، ولكن سورة إبراهيم تحقق أهدافها بطريقتها الخاصة، ومن خلال شخصيتها المتميزة!!.
موضوع السورة الأساسي هو المواجهة بين الحق والباطل، الحق الذي يقدمه ويحمله الرسل، ويقودون أتباعهم في الوقوف أمام الباطل وجنده، وتذكر بعض ما يقوله الرسل في تحدي الكافرين، وتعرض سنة الله المطردة في الانتقام من الكافرين الظالمين، وتتابع العرض لتقدم صوراً ومشاهد لذل وهوان الظالمين في الآخرة.
وتضرب السورة مثلاً لأصالة الحق وقوته ورسوخه، ومثلاً لضعف الباطل وهزاله، وتقدم الوعد الجازم بانتصار الحق على الباطل،. ونقف الآن مع هذه المجموعات من آيات السورة.
مما جرى بين الرسل وأعدائهم:
أولاً: قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ، وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم: 9-17].
هذه آيات تسع، تقدم مشهداً للمواجهة بين الرسل وأقوامهم، وتسجل الحوار بين الطرفين، وتذكر بعض ما يجري بينهما، وتحدد نهاية الكافرين الظالمين في الدنيا، واستقرارهم معذبين في نار جهنم يوم القيامة.
وتعرض سنة الله في إهلاك الظالمين ونصر المؤمنين، وتقدم الوعد المشرق بالنصر والتمكين، والوعيد الشديد للكافرين.
بعض الحقائق التي تقررها الآيات:
وليس المقام مقام تفسير وتحليل لهذه الآيات، ولذلك نشير إشارة خاطفة إلى ما فيها من حقائق دعوية، ووعد بانتصار الحق.
1- بعث الله الرسل للأقوام السابقين، وأيدهم بالآيات البينات، الدالة على صدقهم، وقدم الرسل تلك الآيات إلى أقوامهم، وبلّغوهم الدعوة.
2- كان موقف الأقوام الكفر والعناد، وتكذيب الرسل، ومجاهرتهم بإعلان كفرهم بهم، وشكهم في دعوتهم.
3- رد الرسل على تشكك أقوامهم، بأن دعوتهم واضحة مفهومة، يتعامل معها العقل والقلب، ولا يشك بها أي صاحب عقل وبصيرة.
4- أثار الكفار شبهة أخرى ضد الرسل، وهي أنهم بشر، ولا يمكن أن يكون الرسل من البشر، فإن كانوا صادقين في دعوى الرسالة، فليقدّموا لهم معجزات خارقة! مع أن الرسل قدموا الآيات البينات لأقوامهم.
5- رد الرسل على تلك الشبهة بأنهم بشر، ولكن الله اصطفاهم، وجعلهم رسلاً، فهذا ليس باختيارهم، وإنما هو من أمر الله.
6- رد الرسل على طلب المعجزات الخارقة، بأن هذا من عند الله، لا قدرة لهم عليه، فالله يجري عليهم ما شاء من المعجزات، ويعطيهم ما شاء من الآيات.
7- واجه الرسل أذى أقوامهم لهم بالصبر، والتوكل على الله، وصدق اللجوء إلى الله، والثبات على المواجهة، والاستمرار في تبليغ الدعوة.
8- لم يوافق الكافرون على موقف الرسل، القائم على الصبر والتوكل والدعوة، ولذلك صعّدوا في مواجهتهم وإيذائهم والتضييق عليهم.
9- قدّم الكافرون للرسل خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يخرجوا من أرضهم ويغادروها إلى أرض أخرى، وإما أن يتخلوا عن دعوتهم، ويعودوا إلى ملة أقوامهم! أما أن يستمروا على دعوتهم ويبقوا مقيمين في بلادهم فهذا لن يكون!.
10- لما وصلت المواجهة بين الرسل وأقوامهم إلى ذروتها، أنهى الله الأحداث بين الفريقين، وطبق سنته المطردة، فأوحى إلى رسله أنه معهم، ووعدهم النصر والتأييد، وأنه سيهلك الظالمين الكافرين، ويجعل المؤمنين الصالحين وارثين الأرض من بعدهم.
11- حقق الله لرسله وأتباعهم وعده، فأنجاهم ونصرهم، وأهلك الكافرين، ودمّرهم، وبذلك كانت نهاية كل جبار عنيد كافر هي الخيبة والخسارة والذل في الدنيا، والعذاب في نار جهنم.
السنة الربانية في إهلاك الظالمين ونصر المؤمنين:
لقد حسم الله المواجهة بين الرسل وأقوامهم، بإهلاك الكافرين، ونصر ونجاة المؤمنين.
قال تعالى لرسله: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ). وهو وعد من الله لرسله بإهلاك أعدائهم، والتمكين لهم، وإسكانهم الأرض من بعدهم.
وقد صدقهم الله وعده، عندما استفتحوا مع أقوامهم، وطبق ما وعدهم عملياً: (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).
وقد أخبرنا الله في هذه الآيات عن هذه الحقائق الدعوية، وأعلمنا بذلك الوعد الذي قدمه للرسل، ونفذه لهم، لنأخذ من ذلك العبر والعظات، ولنحسن النظر إلى وعد الله، ونثق بانطباقه وتحققه في الواقع.
سنة اله التي لا تتخلف، أنه إذا قال أصحاب الباطل لأصحاب الحق: (لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) فإن الله يعد أنصار الحق بالنصر، ويقول لهم: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ).
وينهي الله القوي الغالب المواجهة بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، على أساس قوله تعالى: (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).
إن الخيبة والخسارة هي نهاية كل جبار عنيد، يغتر بقوته، فيستخدمها في حرب الإسلام وجنوده، فيخرج من هذه الحرب بهذه النتيجة السيئة. هذا وعد الله للمؤمنين، الذي لا يتخلف في أي زمان ومكان.
وهذه النهاية السوداء تنتظر الجبارين العنيدين من اليهود والصليبيين، وباقي الكافرين في هذا العصر، وسيرثهم الإسلام العظيم، فهذا وعد الله العليم الحكيم!!.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــع
وعود القرآن بالتمكين للإسلام
الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي
المفضلات