رواية.....الرخام الأسود
* رواية
* الرخام الأسود
* الفصل الأول
* تلك هي ليالي الشتاء عندنا في الهضاب العليا ، باردة و ممطرة ، يكشف البؤس فيها عواراتنا وتجاهرنا أيامها بالحرمان ، على ارتفاع 800 م عن سطح البحر، كأننا نتصعد الى السماء ، وسط الجبال الشامخات التي أقسمنا بها في نشيدنا الوطني ، الأودية الموسمية ، كالوشم الجميل على جسد الحسناء و الغابات الجميلة التي تتحدى حرائق البحث العبثي عن الارهاب ، هجرتها القواطع و الأوابد.، و فرضت النزوح على الأهالي ، في هذه الولاية التي أهملت معالمها التاريخية و تجاهلت صانعيها ببديهية حمقاء ، لما تسيس البدو فيها و تحكم الأعراب في رقاب الناس و زمام الأمور، تقود أعراف الموالين القافلة ، و يعرفنا جغرافيوها بأننا في منطقة رعوية لا تجمعنا الا القرى الاشتراكية في المناطق النائية ، حيث يغتال التمدن و تنتهك قيم الحضارة بمفهومها العصري ، و تحول العصرنة المستوردة الى شريط الساحل و الى ولايات تسلط أبناؤها على الرقاب و احتكروا التاريخ و استعبدونا بشرعيات مختلفة ...اما بالحديد و النار ، و اما بالدين ، و اما باللغة ...هكذا تعددت أربابنا لنعيش مسخ الخلاف و الاختلاف تحت لواء الشعب العظيم الذي قتلوه بتهمة الرجعية ، ثم بتهمة الكفر ، و سيقتلونه بتهم آتية كسواد الليل المدلهم ...
فقلت له : سودتها يا صاحبي ، و كاد الكبد أن يتفجر فعد بنا الى بيت القصيد
فقال: ان مأساة خضراء ، صنعها هؤلاء الوحوش ، حتى الصدف كانت ضدها ، أصبر ستتمزق أكثر يا صاحبي ....
سميت ولايتنا ...شقية ..، نسبة الى عاصمتها المدينة الشقية ، أحداث هذه المأساة تجري في ..عين القسوة ..قرية من قرى هذه الولاية ، و ما أكثر العيون في بلدنا ، بداية من عين الفوارة الشهيرة ، وحدها هذه العين التي لا يرتوي منها هذا الشعب ،انها رمز الحضارة و التفتح ، و شهادة مرور التاريخ من هنا ، هكذا يقدس الفن عندنا و يتغير المفهوم الأخلاقي ، هكذا يجب أن نمارس الحضارة و التفتح و نخلد القيم الانسانية و آثارها و مآثرها...هكذا يجب أن نكون... أو لا نكون ...
عين القسوة منطقة زراعية رعوية ، كانت اراضيها كلها تحت مزارعي الاستعمار الفرنسي اخصب الأراضي و أجملها ، يسكنون القرية و لهم في كل مزرعة مساكنا على الطراز الريفي الأروبي أنذاك ، مزينة بأشجار السرو ،رمز الخلود و البقاء و التحدي و فرض الذات ، و كان الأهالي كلهم اما يعملون من طلوع الفجر عندهم الى غسق الليل ، على فرنكات البؤس و الفقر ، أو رعاة تبتلعهم السهوب و الفيافي طوال السنة ، هؤلاء هم من أسس بعد الاستقلال لنظام حول قاطرة النتائج كلها، لتصب في هاوية بعيدة عن كل هوية ، سكنوا مساكن المعمرين و سلكوا مسلكهم في تسيير الريع بعصيهم و عفيون جديد..الشقاء يا صديقي لا يصنعه شيء واحد ...هي ذي الظروف التي تترعرع فيها معاناة خضراء ، ضحية هذه القصة بحوادثها المؤلمة ، و قدر أريد له أن يسقي الضعفاء المرارات ، و تدفع الذات البشرية ثمن بقاءها ، و بقاءها فقط ، آلاما و آهات ، و دموعا ، ذنبها الوحيد أنها جاءت الى الحياة في الوقت الغير مناسب ..هنا في هذا البيت الذي كان يسكنه المسيو صونديرو ، بدأ الشقاء يوما يؤسس لمعاناة انسانية يعجز اللسان عن وصفها ...
كان الليل حينها قد غمر الكون و خيم السكون و هجعت الحياة ، و في مثل هذه الساعة دائما ، ساعة مولد خضراء ، يرتفع ذلك النداء الذي ينبعث من أدغال الصمت ، من عمق ظلام النفس ،يتشكل منه سواد شبح قادم من كل جهة ، كأنها مقيدة فوق هذا السرير الموحش ، المسكون بلعنة شرسة تترصدها ، لا تمل و لا تغفل و لا تيأس ...منكمشة تحت الغطاء تحاول اسقاط تلك السنوات من العمر ، حديدية الأطراف ، في صراع مع هذا الأرق ، يحول الارهاق زفراتها الى أنين ، يخرجها من الخيال الى مسرح الاحتمالات الرهيبة ...فتحت عينيها ، تنفست الصعداء ، نبضات قلبها تكاد تطغى على دقات المنبه التي تطارد الزمن لبلوغ ساعة الاستنفار ، كانت الغرفة مظلمة ، ترد جدرانها صدى الآيقاع بطريقة عجيبة تثير الأعصاب ، مزج فيها السكون بضوضاء النفس اللوامة و حركات العقارب التي تطوي المسافات من العمر في عجالة مفرطة ، تخفي سذاجتها الحدث بالحدث و تنتقل من حال الى حال ، يتداول كل شيء في نفسها و تتعاقب الزوابع ...النقاط اللامعة المضيئة و سط الظلام على شكل دائرة مفرغة ، ينبعث من مركزها شعاعان ، تشير بهما الى الساعة الثانية صباحا ، انها لم تنم أكثر من ساعة واحدة ، و لم يتخلف ذلك الكابوس الذي يطاردها في النوم مثل اليقظة . و بدأت من جديد ساعات العذاب و التأنيب ، يمزق الندم بمخالبه المفترسة الطوية الكتوم ، تتقلب يمينا و شمالا ، تدس رأسها تحت الوسادة ، تتوسدها ، تشد رأسها بين يديها ، تعض على شفتها ، محاولة بذلك أن تدفع تلك الفكرة الجنونية بعيدا بكل ما تملك من قوة ، تصاعدت وتيرة تنفسها وامتزج خفقان القلب بريبة سكون المحيط الذي يحرك النوابض في كل شيء ، استحوذت الروح الشريرة على مجمع الحواس، فانسلت من فراشها كأنها حية انسلخت ، و تسربت من غرفتها الى المطبخ ، حملت خنجرا و خرجت تشد بين أنيابها على ارادة كانت تخونها دائما ، ارادة تكاد تنفلت من حين الى حين ، تمشي على دقات قلبها و الدموع متحجرة في عينيها التي تكاد ان تتفجر من شدة الاختناق ، تشق الرواق تحت ضوئه الشاحب في اتجاه غرفة خضراء ...و لما وصلت أمام الباب التفتت يمينا و شمالا ، انتظرت قليلا ، ثم دخلت و أغلقت باحكام ، أسندت ظهرها اليه تتحسس و تستجمع قواها ، وهي تحدق فيما حولها بدافع غريب، وقع بصرها على صورة خضراء في عيد مولدها الأول ، تحفة فنية صغيرة من متاحف أفريقيا السوداء وسط اطار مذهب على طاولة السرير ، يعكس زجاجه الضوء المتسرب من فجوات النافذة ، فتقدمت و هي ترتعش ، تطوي بخطوات مترددة خمسا و عشرين سنة من العمر في لحظات ، تريد القضاء على ذلك الكابوس الذي يطاردها ، تريد أن تجعل له نهاية في هذه الليلة...أشاحت بوجهها عن الصورة لتقطع شريط الذاكرة ، فوجدت نفسها أمام واقع يتحدى ...انها ممدودة تتوسد ذراعيها ، تعانق ببراءة حلم الحياة ،على ضوء الشارع الذي يتخلل الفجوات و ينعكس على بياض السرير ، تظهر صورة من الظل الأسود ،انها مستلقية على الفراش ...أروع ما أبدعت يد الخفاء في رسم غرفة نوم لملكة الجمال عند الزنوج ، و أمام هذا المشهد المستسلم الآمن الذي تزينه الطمأنينة ، صرخ الواقع في وجه سترة ، صرخة البراءة يتحدى القدر المزيف الذي أريد له ، فبدأ مفعول القلب يحل محل تفكير العقل ، و كأن جسدها تلقى حقنة من منبع العاطفة ، فأحيا مشاعر الأمومة الصادقة التي أريد لها الاغتيال ، و رفضت اليد الانقياد ، فشلت و سقط الخنجر ، وارتشق النصل في قدم سترة فصرخت ، انه سهم الحقيقة التي تستيقظ دائما في آخر لحظة للحسم حتى لا تكون ضحية التزوير ، وانتشلت خضراء من نومها ، و هبت واقفة مستجمعة تستر جسدها باللحاف و تزلزل بصرختها أركان كل البيت ، سقطت سترة على الأرض و قفزت خضراء نحو الزر فأوقدت المصباح ..
* خضراء: أمي ؟!!! ماذا حصل ؟.. ما بك ؟..
* سترة : لا شيء ...لا شيء ، ناوليني الكحول ،أسرعي بعلبة الدواء ...انها في الحمام ..أسرعي ..
* استيقظت كل العائلة على هذا الصراخ الذي مزق الصمت المطبق و تناسقه مع سكون الحركات ، هبوا جميعا نحو غرفة خضراء التي كانت دائما مسرحا للشغب و المناوشات .... هكذا بدأ النزيف يوما في هذه الأسرة ، أحدثته الحقيقة التي ترفض الاغتيال و لا تؤمن بالموت حتى تقتل الافتراء...
* التف حولها الجميع ، وجلست خضراء أمامها ، مرتبكة ، تنظف الجرح و تضمده ،محاولة عبثا ايقاف النزيف ، و لما أغمي عليها حملوها على السرير ، واكتشف الجميع الخنجر الذي كان تحتها ، وساد الموقف نوعا من الريبة و الاستياء ، فأحست خضراء بأنها محل شك و محط نظر، فانتبهت لنفسها ، حملت ملابسها و ذهبت الى الغرفة المجاورة ، و لما عادت و جدتهم قد نقلوها الى المستشفى...
حملت سفطها و خرجت ، وانصفق الباب وراءها ،كأنه طبل قرع للاعلان عن نهاية فصل من عمرها و بداية فصل آخر ...
كانت الشوارع خالية ، تمتد أمامها نحو المجهول ، نحو الضياع الذي تصنعه الليالي الموحشة ، متعبة تتقدم و هي تلعن نظام التبني الذي يصطنع الأمومة و الأبوة الكاذبة، تلعن المنطق الفلسفي الذي يؤمن بالأصل في الأشياء كلها ، و يفرضه حتى على الذات التي ترتكب الجرائم و الحماقات و تتنصل منها ...و خرج من عمقها السؤال الملعون ، السؤال الخزي ، سؤال العار ، سؤال البؤس ...من أنا ؟...كأنني ليلها المظلم ، انها تكرهني لأنني لقيطة !.. لأنني سوداء !.. انها تمارس علي زمن النخاسة و العبودية ...أم لأن ابنها كريم أحبني و يريد أن يتزوجني ؟..ما أتفهني و قد صدقت ...
التفتت ، عبوسا كان الشارع ، تتقدم وسط لسعات البرد القارص ، و زخات المطر اللاذعة ، شارع معظم مصابيحه احترقت و من يصلحها ؟.. ، برك الماء على الرصيف تتلألأ ، تعكس أشعة الضوء الشاحب ، غمامات من الضباب تسوقها ريح القر نحوها ، قالت في قرارة نفسها ..حتى أنت ؟..عندما تأتي أيها الشقاء تأتي بالكل ..
تحاول خضراء اختراق مخازن الذاكرة و ملامسة ما وراءها ، لعلها تسترجع ذلك اليوم الذي صنع بؤسها مقابل لحظات متعة ، ربما بثمن بخس ، أو بدافع حب غموس ، يوم النزوة التي قذفتها في رحم عاق ، جعلها الرقم المجهول في معادلة خبيثة و دنيئة ...و لكن ..
تودع بعيون همعة تلك القرية الهاجعة التي كانت تحتضنها فيها الجدران برفق انبجاس الحجر ، امام اجحاف البشر .. هنا كانت تأوي حينما تكتسحها رغبة البكاء ، أو تعاقب لآتفه الأسباب ، هنا كانت تخفي دميتها لما كانت صغيرة خشية عليها منهم ، هنا دفنت قطتها لما سمموها لأنها سرقت عظما سقط من المائدة ، في هذه الحديقة أشياء كثيرة لا تزال تتذكرها ...و هذه دار عمي المبروك الأسود ، يلقبونه ببامبرا ، ذلك الرجل الرحيم ، آآآه ، عمي بامبرا و هذا السواد الحاني الذي كان يجمعنا ، وكلبه ركس صديقي الوفي ، كلما دخلت عليهم يصعد معي و يلعقني ، يلعب معي كأنه طفل مشاغب ، من هنا كنت أمر الى المدرسة ، زجاجها مكسر و بدون مدفأة يعلمنا جلاد لا يرحم ...المدللة الوحيدة كانت بنت رئيس البلدية ، الحاج قادة ، لا يعرف حتى المكان الذي يجب ان يمضي فية على الوثائق الادارية ... تذكرت عامر، كانوا ينادونه بابن السوداء ، تضحك ، آآآه منه كان هو كذلك ماكر و شيطان ، مغامراته مع المعلم لا تعد و لاتحصى ، صديقاتها البدويات كن يقضين أوقات الفراغ أمام المدرسة ،يأكلن الخبز و اللبن البارد، كانت تتمنى أن تأخذهن معها الى البيت ولكن ...في بعض المرات تفقد شهيتها و تخنقها الرحمة بهم
هذا دكان السنوسي مغلق بخمسة أقفال ، مسكين عمي السنوسي رغم كل هذا الحرص و اليقظة و سرقوه عدة مرات ، دائما أبناء الشافي ، حياتهم كلها سجون ، يقودون جماعة أشرار ، و يا ويح من يبلغ عنهم ، و حتى اذا دخلوا السجن ، هم أول من يخرج..فقدت قدرة مقاومة البرد ، و جرى في جسدها دم بارد ، و بدأت ترتعش من الخوف ، تلتفت يمينا و شمالا ، راودتها فكرة الرجوع الى البيت ، لكن الجرح كان أعمق من معالجته بالعودة ، بالعكس المجهول أرحم ، و من يدري ... تذكرت و هي التي أفنت عمرها في خدمتهم ، تطبخ ، تغسل ، و تنظف ..حملت شقاء البيت منذ طفولتها ، هكذا نشأت ، يحبونها أفرادا و يمقتونها جماعات ، تعرف كل شيء عنهم و لا تعرف عن نفسها شيئا ، يلقبونها باليابسة و هي أخصبهم بدنا و أجملهم رسما ، تضحك غير مبالية بهم ، يكرمهم الأهالي خوفا من أذاهم و لنفوذهم ، يأتونهم بالسمن و الصوف و اللبن و الخضر و الفواكه و خرفان المناسبات ، يتوسطونهم للرشاوي و قضاء حوائجهم ، كان أبوها بالتبني رئيس قسمة الحزب الحاكم ، وحده في القرية تصحو على يديه و تمطر ، انه من قبيلة اولاد سيدي ساد ، التي تمثل الأغلبية في هذه المنطقة ، تعصب الآباء و تشيع الأبناء بالشيوعية الحمراء التي لا ترحم حتى من يخالفهم في اللباس ، أسسوا لعقلية فرنسية بمراس أعرابي ، ظاهره رحمة و باطنه عذاب ، و طال عليهم المثل القائل ..فارس من ركب اليوم ..
انها الآن في بوابة القرية تنتظر القدر الآتي متحدية كل الأعراف ، تتصور مغامرتها مشاهد مختلفة من فصول هذا المجتمع المعوق ، حين يمثل مسرحية اختفائها، و هي كذلك حتى أيقظها ضجيج محرك شاحنة لشركة سوناطراك، شركة البترول الذي يراه الجميع والغاز الذي لا تراه العين المجردة ، أشارت الى السائق فتوقف ، فأسرعت تتسلق السلم ...ألقت نظرة أخيرة على قرية القسوة...
السائق : الى أين أيتها الجميلة ؟
خضراء : الى مدينة أروان .. وتوقفت تنتظر الاذن ..
السائق : أدخلي ، وأغلقي الباب جيدا .. مرحبا بك في عالم الطريق
خضراء : شكرا
كان السائق ضخما ، يتجاوز الأربعين من العمر ، أبيض بشنب أسود كثيف ،و شعر طويل ، عريض الوجه صغير الأنف بمناخر الثعلب و دقيق الشفتين ، يرتدي معطفا أسود من الجلد الخالص ، تحته قميص أزرق بمربعات سوداء ..
أنطلقت الشاحنة تنتفض من عالم السكون و قيود المكان ، كأنها وحش يهاجم الزمن ، مقارنة بالذات البشرية بدت لها الشاحنة كبيرة جدا و مدبر أمرها صغير جدا ..كانت رائحة التبغ الممزوجة برائحة المازوت تعكر الجو الداخلي ، ففتحت خضراء الزجاج دون اذن ، و فتح السائق الراديو..
السائق : القرآن ..صح نومكم في المحطة..
أطفأه ، و أشعل سيجارة ، كثرت حركاته و نظراته و فهمت خضراء أنه يبحث عن رأس حبل للثرثرة ، فبادرته قائلة
خضراء : هل عندك أولاد ؟..
السائق : لست متزوجا ، أفضل حياة العزوبية ، لأنني وجدت في تنقلي هذا عبر هذه المسافات الطويلة متعة ما بعدها متعة ، و الزواج مسؤولية والتزام كبير ، و قيود لا أتحملها ، الحرية عندي أغلى من أن أتقيد برابطة لست واثقا من نجاحها ..
في هذه الأثناء كانت خضراء قد غادرت الشاحنة ، متحدية سرعتها ، تحوم تلك النفس كاليرقاء في عمق التفكير الذي يحاول عبثا اختراق الماضي ، لم تتوصل الى شيء ، سراب و ضبابية ، و لا نهاية تمتد من كل جهة ، تدفع الى الضياع .. و بدت للسائق على تقاسيم وجهها تغيرات الصراع الذي تعيشه فقال
السائق :هل أنت مريضة ؟..
الا أن تناسق اجترار المحرك الذي كان يأكل بعضه بعضا ، و احتكاك الأفكار المتصارعة في نفسها حال دون وصول السؤال الى مداه.. فهمزها..
السائق : هل عندك مشاكل ؟..
خضراء : لا ، لا شيء ، مجرد غفوة من حزن الفراق ..
و حتى تبعد الحديث عن نفسها ، تابعت تقول
خضراء: ما هي الأماكن التي تعجبك في وطننا الحبيب ؟
السائق : تعجبني زيتونة سيق ، و وردة البليدة ، و مياه سعيدة ، و ملأة قسنطينة ، و سروال العاصمة ، و جلباب تلمسان ، و حايك وهران ، و وشم الصحراء ، انني وطني محافظ حتى النخاع ...أهوى كل شيء يربطني بالماضي بالأصل ، بالتاريخ ، حتى الأسطورة أعشقها ...
خضراء : الماضي ؟.. الأصل ؟.. التاريخ ؟.. هذه كلمات عجزت معاجم العالم عن شرحها ،و اثبات حقيقتها و شرعيتها ، أنا لا أومن بها ، لأنها مزورة ، مفبركة ...الحياة هي المستقبل و الماضي هو متعة الحلم عند الأقوياء والكابوس المزعج عند الضعفاء ، المزعج ، نعم المزعج و المفزع .
السائق : رغم هذا أنت تسأليني عن الماضي ، و كل حاضر وليد ماض معين ، و حاضرنا تاريخ المستقبل ، هكذا علمتني مدرسة الحياة ، مدرسة السفر ، مدرسة الطريق الطويل الذي يصل الزمان بالمكان ..
خضراء : الطريق ؟.. الطريق مدرسة المشردين ، و المنبوذين ، و بقايا هذا المجتمع الذي لا يرحم ..
السائق : أظن أن النكران و الجحود قد أصاب منك حظه و أصابك في الصميم ، لا يتعفن الماء الا في البرك ، أما المياه الجارية تمخر الأرض و تشق طريقها في الصخر و منثنى الرابية ،تبقى دائما أطهر و أنقى ..
خضراء : يذكرني كلامك بسبخة وهران و واد الحراش ، انها فضلات أهلها لا غير ، انهما التاريخ الحقيقي لمخلفات البشر ، لأمة تبلع دون هضم ، أمة متنكرة لأفعالها و أقوالها ، هكذا التاريخ الذي تمجده أنت أيها المحافظ ، لا تحاول، لن يصلك صافيا نقيا ، التاريخ يا سيدي فضلات الأمم الحية ، تقتات منها الأجيال الميتة ، و صدق من قال ، ان صدق التاريخ فأنا أكذوبته الكبرى ... خيم الصمت من جديد و انقطع تيار الكلام ، وانفرد كل منهما باجترار كلام صاحبه ..
و قال السائق في نفسه ...ان هذه القلعة السوداء شرسة في النقاش ، لا أظن أنها تفتح أبوابها الحقيقية لأحد ، ذكرته بزنوج أمريكا ، يقال أنهن يتميزن بالأنفة و الزهو ، و الافراط في الكبرياء ...لا شك أنها في حالة متوترة ، أو أنها تعاني من عقدة نفسية ..
السائق: موظفة أنت أو طالبة ؟..هل لي أن أعرف أسمك ؟
خضراء : اسمي بنية ، أعمل ممرضة
السائق: عمل انساني مشرف
خضراء : في وسط الوحوش ، بل أفظع من ذلك ، انها انسانية آلية تطورت فيها آليات الظلم و الجحود ، و..
فقاطعها قائلا
السائق : كفى ، كفى ..توقفي قليلا ، ما هذا التشاؤم يا سوداء الباطن ، انك تعانين من عقد كثيرة ، و كأني بك في عهد النخاسة و العبودية...ألست كالريح المرسلة ، حرة طليقة ، لا يقيدك مكان ولا يحاصرك زمان ؟..
خضراء : آه لو كنت ريحا ... لعصفت بهذه المجتمعات ، و قذفت بها الى الجحيم ، أي حرية هذه التي تتكلم عنها ، حرية الذباب و الحشرات و البهائم ، هذا المفهوم للحرية هو الذي صنع نخاسة العصر واستعبد الجميع ..
السائق : هذه فلسفة و كلام لا يعكس الواقع ، لو كنت فلاحة لمات الناس جوعا ، تشاؤم وانهزام كلي ، أمام تحديات بسيطة و طبيعية يصادفها الجميع و في كل المجتمعات
خضراء : لست فلاحة والناس يموتون جوعا ، و لست حاكمة والناس يموتون مئات المرات ظلما ...و الناس ...و الناس...أما أنت لا شك أنك ابن ما وراء العصر ، أرجوك لا تجعلني أسجل أسفارك في سجلات العبثية ، بالله عليك بأي عين تنظر أنت الى هذا المجتمع ؟..أبهرتكم السطحيات ... خنقها الدمع فسكتت...
و عاد الصمت ليخيم من جديد و يترك المجال لسمفونية الاجترار ،اجترار النفس و الحديد ...يستوي الطريق أمامها و يمتد حتى يدرك الأفق ، ثم تأتي المنعرجات ، الأشجار تمر كأنها تقتلع و يرميها الزمن الى الوراء بكل ما أوتي من قوة ...هكذا تنظر خضراء الى الأشياء ، الزمن في نظرها لا تقهره الا القوة ، قوة السرعة ، و سرعة الحركة ، رغم أنها تقدمنا الى الموت ، و تحدث الاصطدامات و الانكسارات ، الا أن الانسان عازم على الوصول بسرعة على حساب العمر ...هكذا التحمت نفس خضراء بالمسافة و شجون السفر، و دون سابق انذار قفز تفكيرها الى حادثة البارحة ، ماذا سيقولون بعدها ، سيقولون هربت المجرمة ، و يقول آخرون اراحنا الله منها و يقول ...آآآه ،كريم هو الوحيد ، نعم هو الوحيد ... و بدأت مراسم الندم تتشكل في كل مدارك ذاتها ، اغرورقت عيناها و كادت تنهار بالبكاء ، تصارع فكرة العودة الى البيت بأيد فارغة وقلب جريح ...حينها كان البيت مسرحا للتساؤلات ، و حقلا للظنون و الاتهامات ، الكل في الغرفة حول سرير الأم الطريحة ،رؤوس منحنية أثقلتها التساؤلات ، و شفاه تأكلها أسنان الغضب الذي تغذيه الكلمات الملتهبة ، التي تتطاير كالشظايا من كل جهة ...
كانت حينها نونة الشبح ، هكذا ينادونها ، هذه العمة العانس ، واقفة أمام الباب ، تطارد بنظراتها عيون الأم ، كأنها تريد أن تقول لها شيئا ... امرأة طويلة ، بوجه عريض تملأه عيون البوم ، تتابع مجريات الحديث في صمت مريب ، كأنها تخفي وراءها منبع الحدث ، فضولية الى أقصى درجة ، لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة ، تساعدها شساعة البيت وكثرة أجنحته على تحركاتها المريبة ، تجدها دائما حيث لا تتصور أن تكون ، وحيث لا يجب أن تكون ، كأنها السراب ، تتصرف ببرودة ، تمر أمامك مر الكرام ، أينما كانت يثير تواجدها اسئلة الشك ، لا تتكلم كثيرا ، عندما تنظر اليها تشعر وكأنك أمام شبح تتصارع في عمقه أرواح متناقضة وملامح الوعيد ، تزرع في نفسك رهبة ممزوجة بنوع من الشفقة والحذر ، ليلة الحادث شاهدتها خضراء في آخر الرواق ، واختفت فجأة ، ولما خرجت كانت تراقبها من شباك الطابق العلوي ... لا يعرف عنها سوى أنها العمة الشقيقة ، كانت هي اللبنة الأولى في تشكيل هذه الأسرة ، تحتفظ بجميع أسرار البيت وماضيه ، لا تقوم بأي شغل ، كأنها السيدة الشرفية للعائلة ، لا يدخل غرفتها أحد ، تعيش في عزلة وهي محور البيت ، تظهر وتختفي بسرعة ، لا يحدد أحد مكانها ... في هذا البيت لا تستطيع أن تجزم أنك وحدك الا وهي معك ، الجميع يتحفظ ، صورة لظل ليس له جسد ...
ثورة : هذا أقل ماكنت أتوقعه ، ان لعنة اللقطاء تطاردها حتى الموت ، سترون ذلك ..
الأم : لقد انتهى كل شيء ، لن يكون لها المكان بيننا أبدا ، قالها الأولون ًالمربي اليه ربي ً هي ذبحت الكلب لا تسلخيه أنت .
ثورة : كنا نحنو على أفعى ، لم أكن أكرهها الا لسواد أفعالها ، انظرو الى ذلك الأبله ، أراد أن يتزوجها ، كم كنت غبيا وساذجا ، وهكذا يعيرون أبناءك بأولاد اللقيطة
الأب : يتزوج من ؟
ثورة : يتزوج خضراء
الأب : خضراء ؟! .. هذا هراء كيف يحصل هذا في بيتي ؟! لماذا أنا آخر من يسمع في هذا البيت ؟
الأم : هون عليك يا حاج مجرد كلام أطفال ، لم يكن من الأهمية بمكان ، وأنت يا ثورة كفى !..لا تزيدي .. كفي عن أذى أخيك
كريم : سأبحث عنها لعلها تكون عند عمي بامبرا
الأم : لا تحاول يا بني ، انها كابوس العائلة وانزاح ، دعنا منها ..فقط لا أريد أن يسمع أحد بهذه الفضيحة ... خضراء سافرت
ظهر نوع من الارتياح على وجه الأم ، كأنها أحطت رحلا ثقيلا ، نسيت جرحها وهمت بالوقوف ، فأعادها الألم الى وضعيتها ، تنهدت وهي تنظر الى السقف وهمهمت ، وأخيرا جاءت النهاية وبتكلفة أهون ...
كريم : ماذا تقولين ؟
الأم : لا شيء أراحنا الله منها
نظر اليها كريم مستغربا كيف تحولت أمه بين عشية وضحاها الى وحش لا يرحم ، ماكان يظن أن أمه تحمل كل هذا الكره لخضراء
الأب : اتركوها ترتاح قليلا ، لقد تعبت كثيرا ، أما تلك اليابسة ، يعني بها خضراء ، فالى الجحيم
انصرف الجميع وبقي كريم ، ولما استوت أمه على فراشها ، وضع على صدرها الغطاء ، وهمس في أذنها قائلا ...
لماذا كل هذه القساوة يا أمي ؟!.. لماذا كل هذا البغض ؟! لماذا ؟ لماذا ؟
الأم : كم أنت طيب يا كبدي ، ليت الناس كلهم كريم ، يسامحون مثلك ، ولكن هيهات هيهات يا بني الدنيا آكل ومأكول ...
خرج كريم يجر الخطى ، وهي تنظر اليه بعين الشفقة ، تنهدت وقالت .. من أجلك ، ومن أجلها ، ليس لي خيار آخر ، لعل هروبها يكون قد حمل معه كل الافتراضات المأساوية التي كانت من المحتمل أن تصيب هذه العائلة ..
وصلت الشاحنة الى محطة الوقود ، تزودت ثم انطلقت ولا يزال السائق يلتزم الصمت وأحست خضراء بنوع من الحرج وهي تنظر الى صاحب المعروف الذي وضعته في قفص ، وبدى على وجهه الانهزام وشعرت في نفس الوقت بقوة تدفعها الى خوض المغامرة بكل ثقة ومواصلة الطريق ، لعلها تكون قد تزودت هي كذلك بعزيمة أقوى ..
الآن انهما على مشارف مدينة أروان ، هذه المدينة الساحلية التي سلبت بشوارعها ومحلاتها وساحاتها ، ومآثرها التاريخية ومراكزها الثقافية وشواطئها الذهبية ، سلبت بهذا الارث الذي تركه الاستعمار الفرنسي عقول مريديها ، هنا ، في هذه المدينة كل منشغل بنفسه ، هنا تذوب كل الفوارق الا فوارق العلم والمال ، لكي تعيش هنا يجب أن تندمج ، ويبقى هذا الوجه الظاهر لهذه المدينة العريقة التي تعاقبت عليها عدة حضارات واحتوت مختلف الثقافات
من هنا تبدأ رحلتي ، هكذا قالت في قرارة نفسها .. لا يزال شيء من الخوف يدفعها الى التردد ، الا أن الأمر قد تجاوز حد التراجع ..
سأعيش الغربة ، أستنجد بالعيادات ولا شك سأجد عملا ، ولا ربما في المستشفى ، لا أحتاج الى سكن .. المهم سأكافح من أجل البقاء ولو بالانحراف ، ليس لي من ألام عليه ، لا ، لا يا خضراء ، سيحميك الرب وليس لك سواه ، ومن بعد ، ذنبي على من أوجدني وضيعني ، سأحاول ..
السائق : ها نحن في مدينة أروان ، مدينة اللهو والطرب والخمر والنساء ، هنا يا آنستي يتنفس التاريخ بثقافاته المختلفة ، ترين موزايك من البشر حسب الأصول ، الروماني ، والبربري ، والبيزنطي ، والتركي ، والعربي ، والفرنسي ، والاسباني ، واليهودي ، و ، و ... كلهم محسوبون على العرب الا القبائل لا يزالون رومان وانظري الى فيزيولوجيتهم بالمقارنة ، الأفارقة يتميزون بالشفاه الغليظة و أنوف عريضة ، المصريون مثلا رغم أنهم بيض الا أنهم أقرب في الوصف الى أغلبية الأفارقة ، أما القبائل هم من بقايا الضفة الأخرى ، ولا يزالون لأنهم لم يندمجوا ...
كثيرة هي الأشياء التي ستكتشفينها خلف الممارسات الغريبة ، مثلا العبيد لايزالون في رقصاتهم الفولكلورية يستعيدون ظاهرة الجلد ، سجلها التاريخ بهذه الطريقة على شكل شطحات روحانية الى يوم الدين ...
دخول البيض معهم تكفير عن هذا الذنب واقتصاص
انها مخلفات الأمم التي مرت من هنا وشكلت النواة الأولى لكيان جديد ، يجمعهم في آخر أعمارهم عند سن التقاعد الاسلام ، انه العربة الأخيرة في قطار الحياة التي تنقل الى القبر ، فلا تتعجبي ، ربما ترين أشياء أخرى وتكتشفين عوالم خفية وطقوس أغرب من الخيال ، فلا تتعجبي ، انك في مدينة أروان ....
خضراء : لأول مرة آتي الى هنا
السائق : اذن كوني حذرة ، هنا يعروك والبوليس ينظر ولا ينقذك أحد ، لأن ماوراء نجاتك فائدة ، واذا كانت باريس مدينة الجن والملائكة ، فمدينة أروان مدينة الجن فقط ، منهم ومنهم وقليل ما هم ...
ستتذوقين التاريخ وتستلذين معانيه وتتحولين من المحافظين ، فاذا كنت من أصول افريقية هنا تستمتعين بذلك ، فأنا مثلا من أصول تركية ، لا نزال تركيبة أساسية في هذا البلد .
على كل حال اسمي سلطان ، تحصلت على شهاد الليسانس في التاريخ من جامعة الجزائر ، وأعمل كسائق في سوناطراك لأنني أحب السفر ، وأحب المال ... ربما يجمعنا الطريق مرة أخرى ونعزف حينها على وتر واحد .
توقفت الشاحنة وقال السائق : لا يسمح لمثل هذه الشاحنات بالدخول الى المدينة ، لا بد أن تنزلي هنا ، هذا أقرب مكان لوسط المدينة ، هناك النقل بأنواعه لكل وجهة تريدين .
لم تجد خضراء ما تكافئ به السائق ، فأهدته ابتسامة خاصة جمعت فيها كل معاني الشكر والامتنان ، نزلت ولما استوت واقفة على الرصيف ، نزعت خاتمها ومدته اليه
خضراء : خذ ، انه من الذهب الخالص
فنظر اليها ، هز رأسه ، ابتسم وتحركت الشاحنة بكل قوة ، أعادت خاتمها في اصبعها ومسرعة ارادت أن تمر الى الرصيف الآخر ، وبمجرد ما ظهرت خلف الشاحنة ، فاذا بسيارة قادمة بسرعة جنونية ، اراد السائق أن يتحاشاها فاصطدم بسيارة اسعاف قادمة من الاتجاه المعاكس وارتطمت بهم سيارة الشرطة التي كانت تطاردها ... كوم من الحديد ولحوم البشر ، لم ينج في الحادث الا خضراء ، نقلت الى المستشفى في غيبوبة تامة ، وضعوها في غرفة منعزلة تحت حراسة مشددة ...
كان النوم برزخيا عميقا ، فضاء أزرقا ، لا بداية له ولا نهاية ، مجرد من الاتجاهات ، ضياع ، سباحة في عمق الماء دون مقاومة ، سكون مطلق حيث يتوقف مفعول الشعور واللاشعور ، يندمج فيه الأنا والذات بالفراغ ، انه اللاشيء ، انه الذوبان والفناء ، كأن هذا الجسد وجد ضالته ، اغتسال وتطهير من الماضي وموت السؤال ...
فجأة هبت نسمة هواء ، ثم أخرى ، وبدأت الأشياء تتشكل ، تتركب ، والحواس تستعيد وظائفها ، وقد تلقى الجسد البارد نفحة من دفء الحياة ، انه يعود من بعيد ، من عمق السفر الآخر
خضراء : آآه .. آآه .. آآه
الشرطي : ألو .. ألو .. سيدي المحافظ ، لقد استيقظت المتهمة
الممرضة : لم تستيقظ بعد ... لقد خرجت من الغيبوبة فقط ، ولا تزال تحت تأثير الصدمة ، لا ندري كيف تكون حالتها النفسية ، على كل حال لن يراها المحافظ قبل الطبيب .. أنصحك أن تبقى أمام الباب
الشرطي : أبدا ، عندي أوامر ، لن أبرح هذا المكان
خرجت الممرضة ، وبعد هنيهة عادت ومعها الطبيب ، جص نبضها ، تفقد الأجهزة ، ابتسم ونظر الى الممرضة ، ابتسمت ، ولما هم بالانصراف دخل المحافظ
المحافظ : آه ، دكتور .. خرجت من غيبوبتها ؟
الطبيب : لا ، لا تزال تحت تأثير الصدمة ، لم تخرج بعد من مرحلة الانعاش
المحافظ : اني في سباق مع الزمن يا دكتور ، والوضع لا يخدمني
الطبيب : لا أسمح لكم بأي سؤال قبل نهاية مهمتي واخراجها من دائرة الخطر
المحافظ : لن نكون ثقلاء ، سؤالين أو ثلاث
الطبيب : أبدا ، انها تحت مسؤوليتي
المحافظ : أي مسؤولية هذه التي تخدم المجرمين
الطبيب : تعالى معي الى المكتب ونتحدث
فراغ كبير يحيط بها ، كأنها ريشة تسبح في الفضاء ، دوران في الرأس ودافع للقياء ، وأوجاع مع كل نابض ، رائحة غريبة تملأ المكان كأنها تخرج من جوفها ، شبح أبيض تتشكل ملامحه وتختفي خلف الضباب ، رويدا رويدا ، تقوم بمجهود أكثر ، تقاوم ، بدأ يتبدد ، ينقشع ، ويظهر وجه امرأة تبتسم ، نعم انها شابة جميلة بلباس أبيض ، يحول الدمع بينهما ، أغمضت عينيها من شدة الألم ، أرادت أن ترفع يدها ، آآه .. آه ..ماء .. ماء
سقطت قطرات على شفتيها الذابلتين ، تلعقهما وتبتلع بصعوبة ، قطرة أخرى ، ثم أخرى ..
خضراء : أين أنا ؟
الممرضة : أنت في المستشفى ، لا تخافي لقد تجاوزت مرحلة الخطر ، لا تتكلمي كثيرا حبيبتي ، ولا تتحركي حتى لا ترهقي نفسك أكثر ، أغمضت عينيها من جديد واختفت ملامح الحياة ، في نوم عميق .. جصت نبضها ، الأجهزة تعمل عاديا ، ليس هناك أي اشارة لخطر ما .. انه الارهاق فقط..
أغلق الطبيب الباب ، وجلس ودعى ضيفه للجلوس فأبى قائلا
المحافظ : ليس الوقت للجلوس والحديث ، أنا بحاجة الى تصريحات ، الوقت يداهمني يا دكتور ، تعقل قليلا
الطبيب : عندما تنتهي مهمتي وتخرج المريضة من دائرة الخطر
المحافظ :المجتمع كله في خطر ، هذه العصابة ان تمكنت من الفرار ستكون ضحاياها بالآلاف ، يستحيل الانتظار أكثر
الطبيب : هب أنها ماتت
المحافظ : كنا نحول اهتماماتنا الى اتجاه آخر ، وحتى الآن هي أقرب الى الحقيقة من غيرها
الطبيب : أنت يا سيدي لا يهمك الا التحقيق ، انها مهمتك ، تريد أن تقوم بها على أكمل وجه ، ورغم كل الصعوبات يبقى لك هامش التحرك واسعا ، أما نحن فليس لنا الخيار، تهاون بسيط وينتهي كل شيء ، اننا نتحدى الموت يا سيدي ، أرجوك لا تحاول ... ومن يدري لعل المتهمة بريئة
المحافظ : ينظر اليه بازدراء .. سآتيك بأمر من النيابة ، مهما كانت نتيجة عملك ، لن تنجو من حبل المشنقة ، وسأتشرف على ما يبدو أن أضعه حول عنقها ، وان ماتت قبل ذلك ، ستدفع أنت الثمن غاليا ..
الطبيب : ستكون مهمتك صعبة للغاية ، يمكن مستحيلة
المحافظ : سنرى ، سنرى ..
خرج المحافظ وقبل أن يغلق الباب ، نظر الى الطبيب ، تبسم وانصرف بكل هدوء ..
الشرطي: سيدي المحافظ لقد تكلمت مع الممرضة
أدخل يده في جيبه ، ينظر الى الممرضة وهو لا يزال يبتسم
المحافظ : تكلمت ؟
الممرضة: نعم .. تكلمت
ولما رفعت بصرها كأنها تراه لأول مرة ، كان وسيما ، تتطاير شرارات الرغبة من عينيه وهو يقترب ، انه فارس الحلم الذي كان يجوب أفق أحلامها منذ زمن بعيد ... سحرها واستسلم كل شيء فيها كأنها سادية
المحافظ: تكلمت ؟ ماذا قالت ؟ ..
لا تزال تنظر اليه ، خدرها بنظرته الثاقبة وانتصرت خشونته الممتزجة بالرقة المصطنعة على تلك الرقة والروح الملائكية ، تنظر الى شفتيه وهي تتحرك ، انها تقول لها ما تريد وبدأت ابتسامة الاستسلام تكتسح وجهها وترسم على المحيا الشغف والاعجاب ، تنبه المحافظ لذلك وحول ذلك التيار الى عمق الشجون الرومانسية فبهتها .. وقال : أتعبناك معنا أيتها الجميلة ، تحملي خشونتنا ، هي الظروف فقط ، لسنا كما تتصورين ، فقط نخفي مشاعرنا ورقة قلوبنا وراء نصوص القانون ، وأحيانا أمام مثل هذا الجمال تخترقنا الابتسامة وتدرك العمق .. نحن ملزمون برفع التحديات .. ساعديني أرجوك .. وضع يده على كتفها فارتعشت وهمت أن ... ثم قالت :
طلباتك أوامر ، سأخرجها من هذا السكوت عن قريب .. كان صوتها قد غشيته بحوحة وارخت حباله..
الممرضة : أرجوك ، لا تخبر الطبيب ، هذه من أسرار المهنة ..
أخرجت هذه كلمة من عمق المكر ،نظر اليها و ابتسم من جديد
المحافظ : هذا رقم هاتفي الخاص ، انني في انتظارك ، شد على يدها بكل قوة ، نظر اليها بعمق ، أكد في سريرتها موعدا ، وانصرف كعادته بكل هدوء ، كانت الممرضة تتبعه بنظرتها كأنه الشمس نحو الغروب ، ترسم في أفق عمرها كل معاني الرومانسية ودخل قلبها في غيبوبة تامة وما هي الا لحظات حتى دخل الطبيب
الطبيب: كيف حال المريضة ؟
الممرضة: آه .. نعم .. نعم .. إنها .. لا تزال ...
الطبيب: لا تخشي شيئا ، عمل الشرطة مروع ، ومعاملتهم خشنة ، ولكن علينا أن نعلمهم كيف يحولون خشونتهم وعنفهم رحمة في خدمة الإنسانية ، عند الأمم المتحضرة ، الشرطي أرحم وأرق من الطبيب ، الشرطي يا بنيتي في الأمم المتحضرة هو ذلك الجراح الماهر وهو يعالج مجتمعه ، لا جلاد سعيد بقطع الرقاب، والقانون عند الأمم المتحضرة يشرع للمساعدة على العيش الكريم والسلام والحرية والأمن والأمان ، ليس موادا لاضطهاد الأمة وذلها واستعبادها ، ان غاية القانون صنع الجنة فوق الأرض ، ولا يعذب بالنار الا رب النار ... نحن نحيي الناس ونمنح لهم الحرية ،هنا تنتهي مهمتنا ومهمتهم تنتهي في السجن أو تحت المقصلة ، نمنح الحياة وهم يمنحون الموت ، وما أكثر أخطائهم والتاريخ يشهد .. القانون لا يرحم إلا الأقوياء ، والا كان كتابا منزلا ...
فالنكن مدرسة لهؤلاء الذين يلهفون وراء الدرجات على جثث البؤس ، انهم بحاجة الى جرعة عاطفة وكثير منهم نشأ محروما من أدنى لمسة ... وأنت أعرف بهؤلاء ...
الممرضة: بحكم عدم التجربة كان الامتحان اليوم عسيرا ، لم أتعود على هذا النوع من المعاملات ، على كل حال المحافظ يظهر عليه طيب ومتفهم
الطبيب: الا معك أنت ، أما معي فكان العكس تماما ، مثل الوحش الذي حيل بينه وبين فريسته ، انهم يتدربون على ذلك ، لا يتركون للعواطف مكانة في نفوسهم ، الذي يعمل في الأمن يبيع أمه وأبوه من أجل ترقية أو رتبة أو حتى كلمة شكر ، لو تعلمين كيف يتعامل الشرطي السويسري والانجليزي والسويدي مع مواطنيه لا تصدقين .. وشتان ما بين يد انسانية حتى اذا ضربت تضرب برفق ، ويد من حديد ..
سكت الطبيب بعد أن تنهد وكأنه يجتر كلماته ، هز رأسه وقال :
ستخرج الليلة من غيبوبتها نهائيا ، بدأت تتحسن بسرعة ، ابقي بجانبها ، سأتغيب الليلة ، يخلفني دكتور آخر ربما الدكتور مراد ، ذلك الشاب الوسيم ...
الممرضة : حسنا ، سأفعل
انصرف وعاد الوضع في نفسها على ما كانت عليه ، ترتبت الأمور ولم يبق سوى هيامها بالمحافظ ، فقررت أن تعمل كل ما في وسعها لإرضائه ... كان الهاتف في الرواق فأسرعت
الممرضة: ألو ، أنا الممرضة ، ستخرج من غيبوبتها الليلة ، أنتظرك بعد منتصف الليل ، كل الظروف مهيئة ..
غربت شمس ذلك اليوم بصعوبة ، أرهقت يد الأمل التي كانت تدفعها .. كان المحافظ في الموعد متبوعا بمساعديه
المحافظ: كيف حالها ؟
الممرضة تكلمت معي ، شربت الماء ، وسألتني أين هي وماذا حصل ، وعادت الى نومها ولا تزال
المحافظ: هل تجاوزت مرحلة الخطر ؟
الممرضة: على ما يبدو ، ستخرج نهائيا من غيبوبتها الليلة ، هكذا قال الطبيب الذي سيكون غائبا كل الليل ، يخلفه طبيب آخر جديد ، تخرج منذ عدة سنوات وعانى ما عانى من البطالة ، انه طيب فوق اللزوم .. يمكنك أن تبقى بجانبها انها فرصتك
المحافظ : لا أنسى لك هذا أبدا
قال هذا وهو ينظر الى خضراء وكأنه ينقش صورتها في ذاكرته ... لم تعثرو ا على أي بطاقة أو ورقة تثبت هويتها ؟
الممرضة: لا ، لا أظن
جاءت بجانبه تزاحمه المكان وتؤكد النفي
المحافظ: هكذا تعمل هذه العصابات اللعينة ، انها من احتياطاتهم الأولية
الممرضة: بدأت أعيش القصص البوليسية التي كنت أقرأها في الكتب وأراها في الأفلام
المحافظ: الواقع أكثر استغرابا وأفضع ولهذا يجب معالجة المرض بالسم
الممرضة: كل الأمراض ؟ حتى مرض القلوب ؟!! انني أتصور دائما الشرطي بدون قلب ، مجرد من العواطف ، بل أكثر من ذلك ..
المحافظ: قولي آلة
الممرضة : حاشاك ، يقولون أنكم تعتمدون على النظرية التي تقول أن المتهم مجرم حتى تثبت براءته ، أما عند الأمم الأخرى فالمتهم بريء حتى تثبت ادانته ، وحتى في القانون الفرنسي القديم الذي هو المصدر الأساسي للمشرع عندنا ، المتهم بريء حتى تثبت ادانته ، و بهذا ما أخذتم من القانون الفرنسي الا ما تجاوزه العصر ، و ما اسقطته التطورات
المحافظ :هذا فيه شيء من الحقيقة، نحن اليوم نعيش تقريبا المرحلة التي كانت تعيشها فرنسا بعد ثورتها ، و بنفس العقليات ، لا نستطيع أن نسابق الزمن و نتعدى الوضع الراهن ، لكل زمن نصوصه ، و اجراءاته ، شعبنا لم يصل درجة الوعي و النضج الذي يفرض علينا أن نشرع له ما تشرع فرنسا لشعبها اليوم مثلا ، جرعة واحدة من الحرية و يبتلعنا بنكرانه و جحوده ، و تجربة التسعينيات أكبر دليل ، ان مجتمعنا يحتاج الى مدة طويلة تحت قيادة قوية تسيره بالوصاية حتى يبلغ رشده ... لا زلنا نعيش نقصا فضيعا و رهيبا في ثقافة العصرنة و و التفتح و قبول الآخر واحترام الحرية الفردية و الحرية الجماعية ، فالجماعة عندنا أشرار ، و الحرية مقيدة ، و الحكم شمولية و استبداد تحت أسماء و مصطلحات الغواية و الغرار ، هذا هو مفهوم المعارضة عندنا ، فكيف يمكن أن نحكم شعبا بهذا التفكير ؟..عندما تزول هذه الظواهر تزول معها هذه القوانين ، لأنها تظهر بحق أنها جائرة ، أما اليوم لا أظن ذلك ، والثورة الفرنسية حررت كل الدول الأوروبية ، و كانت نموذجا عملت به هذه الدول واستطاعت أن تخرج من دائرة التخلف و الانحطاط ، فلماذا لا نعمل به نحن ، هل نحن مثلا أفضل من هذه الدول ؟..
الممرضة: انكم وبكل احترام تحسنون فلسفة المراوغة و الفخوخ لاسقاط طريدتكم ، أكثر من ذلك أنتم متميزون ، فلماذا يقال أن السجون مليئة بالأبرياء و لا يدخلها أصحاب المال و الجاه و النفوذ ، بالعكس ألغيتم الجرائم الاقتصادية التي حطمت البلاد و فتحت الأبواب على مصرعيها للسلب و للنهب و التبذير و احتكار المناصب والتعسف في استعمال السلطة ...
المحافظ: أتريدين من أن نقطع أيدي الجميع ؟
الممرضة : عندما نسمع بسرقة 3200 مليار دينار مثلا بعقوبة سبع سنوات ، لا نرى أشرف من مهنة السرقة و أرحم من السلطة..
المحافظ :نحن لا ندعي الكمال ، و هذه أشياء موجودة في كل الدول ، و المثل الفرنسي يقول ...ليس الممنوع أن تسرق و لكن الممنوع أن يكتشف أمرك ..
قالها و هو يضحك ، و كأنه يريد أن يضع حدا للنقاش ..
الممرضة : أنا لا أصدق أن الشرطي يحب بصدق ، القلب الرحيم لا يملك يدا من حديد
ألمحافظ: هل هذه عقدة أو حساسية اتجاه الشرطة ؟..
الممرضة بكل خبث : انك تؤكد نظريتي
المحافظ : ماذا تعني ؟
الممرضة : أنظر ، انها تتحرك ، انها تريد أن تقول شيئا ...
وضعت يدها على جبينها و قالت بلطف : انها تتحسس
المحافظ : يجب أن تستيقظ ، يجب ..
الممرضة: لا تقلق ، ستفعل ، فقط التزم الهدوء ، انك في مستشفى
المحافظ: لا أحسن الانتظار في مثل هذه المواقف
الممرضة: عقولكم تشتغل ليلا و نهارا ، لا وقت للقلب عندكم ، جردوكم من كل المشاعر الانسانية .
المحافظ: لولا هذه الآلات البشرية كما تسمينها ، لما وجدت لحظة واحدة للعاطفة ، ولعاد عهد النخاسة و أنت الآن في الأسواق نشتريك بثمن بخس
الممرضة : كلمة حق تجاوزها الزمن..
المحافظ : حكم عاطفة
الممرضة: المرأة أنانية في الجانب العاطفي أكثر من الرجل ، آلية في الحب لا شعورية ، انها تقهر العقل لتحظى بالمستحيل ، في بعض الأحيان تدوس كل القيم لبلوغ ما تريد ، بل لبلوغ المستحيل
المحافظ: لو كنت في الجهاز الأمني لغيرت رأيك
الممرضة: هو الكيد والمكر ، انها الوجه الآخر للعصى والعفيون ، ألم يقال أن المرأة ملاك يسكنه شيطان ؟
المحافظ: هكذا نفيت وجود الرجل في كل المجالات
الممرضة: الرجل خلق من أجل المرأة ، وكل عظيم وراءه امرأة
المحافظ: وكل فاشل وراءه امرأة
الممرضة: بمكرها ودهائها ، وهذا جانب من الذكاء
المحافظ: العمل الأمني لا يميز بين الرجل والمرأة ، الذي يهمه هو النتيجة ، الحقيقة ، ولا تهمه حتى الطريقة
الممرضة: أعظم القضايا ماتت مع أصحابها والمجهول المصطنع لا يزال يفرض نفسه ، أنتم من حول الحقيقة الى قضية فلسفية مبنية على النسبية ، هكذا حولها رجال القانون مثلك ...
يقال اذا أعدت بناء بيتك وجدتها لا تزال مجرد كلمات متراصة في جدران
المحافظ: لا تزالين في النظري
الممرضة: انه مجال العقل والحقل العذري
المحافظ: مجرد فلسفة
الممرضة: أم العلوم يا سيدي
المحافظ: كانت أما ، أما اليوم الكمبيوتر بدأ يفكر
الممرضة: وهكذا فرضت الآلة نفسها على المشاعر .. انها نهاية الروح الانسانية
المحافظ: انها السيطرة المطلقة على الأشياء ، وتسخيرها للوصول للحقيقة المطلقة ، الحقيقة التي أتعبت الانسانية عبر أحقاب التاريخ
الممرضة: نتمنى أن لا تجردنا هذه الحقيقة من عواطفنا
المحافظ: لا تخشي شيئا ، قريبا سيصل العلم الى صنع الآلة التي تبكي وتضحك وتحزن في مكان الانسان
الممرضة: وتحب وتكره ، وتنام .... أليس كذلك ؟
هيا يا سيدي هناك غرفة في الخلف باستطاعتك أن تمتد فيها قليلا ، الليل لا يزال طويلا والكلام لا ينتهي ، فاذا حدث جديد أيقظتك ... اتبعني ..
فتحت الباب أوقدت المصباح وقالت :
تفضل سيدي ، النوم أفضل مهدئ للأعصاب
المحافظ: نصف ساعة فقط
امتد على السرير ، وقفت أمام الباب ويدها على الزر ، أطفأت الضوء ثم أوقدته ، أغلقت النافذة ، وقفت على رأسه
المحافظ: لست مريضا
ضحكت وقالت بمكر .. ما فحصتك بعد ..جلست على حافة السرير ، مالت عليه ... لم يحرك ساكنا ، قامت ، أطفأت المصباح وأغلقت الباب وذهبت ... هل خفق القلب في غير محله ؟ هكذا قالت ، ما أبشع الخطأ العاطفي وما أتفه العبثية ...
كانت حينها المريضة قد فتحت عينيها ، تحاول أن تتعرف على هذا المحيط الذي بدى لها غريبا ، لا تستطيع أن تتذكر شيئا ، تترادف عليها الأسئلة ، وبدأت الحيرة تتشكل على ملامح وجهها وهي تنظر الى الممرضة ...
الممرضة: سلامتك
المريضة: ماذا حدث ؟
الممرضة حادث مرور
المريضة: حادث مرور ؟.. لا أذكر !
الممرضة: ما اسمك ؟
المريضة: اسمي ؟ .. اسمي ؟
بهتها السؤال ، انفتح فمها ، وأخذت تنظر اليها ، فاضت عيناها ، انها تختنق ، كانت يدها مقيدة في السرير ، بدأت شفتها ترتعش ، أرادت أن تصرخ وخانها النفس ، فحولتها أنين
الممرضة: أنا ممرضة ، لست شرطية ولا محققة ... يجب أن تقولي ما اسمك وعنوانك حتى نبلغ أهلك ...
تركتها وذهبت لتوقظ المحافظ ، وقف عند رأسها ، رسم بسرعة ابتسامته الماكرة ، وضع يده على جبهتها وانحنى عليها بكل حنو ، يصطنع الرفق ,قال :
أنت الآن أحسن
المريضة: تهز رأسها
المحافظ: ماهي الا أيام وتعودين الى بيتكم ، بالمناسبة أعطينا عنوان بيتكم حتى نتصل بأهلك
أخرج كناشا وقلما واستوى قاعدا أمامها ينتظر الاجابة
ما اسمك ؟
تنظر اليه المريضة بعيون الحيرة ، غريب انها لا تعرف اسمها ، تتساءل يستحيل أن لا يكون لي اسم ، تنظر الى الأجهزة الطبية ،أشياء كثيرة مبهمة تدور في خلدها
المحافظ: نحن نعلم أنهم أقحموك وغرروا بك .. وما أنت الا ضحية أولئك الأشرار ، ولهذا نعول عليك لمساعدتنا للقبض على هؤلاء المجرمين ، الذين أفسدوا البلاد والعباد ، تعاونك معنا يمكن أن يكسبك البراءة ، فحاولي
المريضة: أين أنا ؟ ومن أنتم ؟ لماذا هذا العذاب ؟ ماذا فعلت لكم ؟
انه الضياع ، انه التيه والاحباط ، تحاول فك يدها ورجليها ، تريد أن تنتفض وتقطع هذه الخيوط التي تربطهما بحبل الحياة ... لا تقدر .. تستسلم ...
أتوسل اليكم ، اقتلوني ، أريحوني ، أرحموني ، أرجوكم ، لماذا تعذبوني ... ماذا فعلت لكم ؟
وبدأت الأجهزة تسجل الاضطرابات والتأثيرات السلبية ، و إشارات الخطر تتزايد
الممرضة: أرجوك سيدي ، كفى ...
مذعورة ، تترجى المحافظ وتتوسل اليه للخروج
المحافظ: هذا الانكار الكوميدي لا يخدمك يا آنسة ، من الأفضل لك أن تعترفي ، الأمر ليس بالبساطة التي تتصورينها ..
فاضت عيناها بالدمع وخنقتها العبرات وأنين الوجع ، تمتخض وكأنها تحت صدمة كهربائية ، وتيقنت الممرضة أن المريضة دخلت مرحلة الخطر ، فبدأت تترجى المحافظ كي يتوقف ولكن أسر على متابعة الاستجواب وكأنه يدفعها الى الموت
فقالت : سيدي المحافظ ، اما أن تخرج واما أنادي الطبيب ، ما اتفقنا على هذا أبدا ، الرحمة يا سيدي
- ماذا يحدث هنا ؟
المحافظ : أنا محافظ الشرطة
- مرحبا بك ، وماذا تفعل هنا ، وفي هذا الوقت ؟
المحافظ: أستجوب المتهمة
-هل أذن لك طبيبها بذلك ؟
الممرضة: لقد خرجت من غيبوبتها وقد تجاوزت مرحلة الخطر ، لا أظن أن هناك مانع ...
-هل أذن الطبيب بذلك ؟
الممرضة: لا ، يا سيدي
- سأحيلك على مجلس التأديب وأنت موقوفة عن العمل ، وأنت يا سيدي المحافظ ، عليك بالانصراف حالا ، أنظر المريضة تعاني من وعكة خطيرة ، اتركوني أقوم بواجبي ... هيا ، أرجوك سيدي ..
المحافظ: هذه سابقة خطيرة ، ستكلفك الكثير
-يا سيدي مهمتنا انسانية نتحمل بكل مسؤولية تبعياتها ، عودة المريض الى الغيبوبة أخطر
المحافظ: لا يهمني ، هذه مجرمة تنتظرها المشنقة ، ستعترف بالرغم عنها ، أما أنت ستدفع الثمن غاليا
-أنظر الى حالتها تتدهور شيئا فشيئا .... من فضلك اتركنا نقوم بواجبنا .. موتها لا يخدمك ، أعرف ذلك .. كفى أرجوك
المحافظ: ولا كلمة ! .. رفع يده في اتجاه الطبيب ، ثم أنزلها وخرج يسب الرب والدين، ولما اختلى بها ، أغلق الباب ، وجلس أمام سريرها يسألها :
ما اسمك ؟
المريضة تنظر اليه
-أنا صديقك ، كيف دخلت الى العصابة ؟ أين الحقيبة ؟ لا تزال المريضة تنظر اليه ، كانت الصدمة أكبر من أختها ، وضع الخنجر في رقبتها وقال لها :
من أنت أيتها اللعينة ؟ قولي والا قطعت رقبتك ، تنظر اليه ، تهز رأسها يعني افعل ، تترجاه بعينيها ، افعل ... هو كذلك موتها لا يخدمه
-سأعود اليك في وقت آخر ... لن تفلتي من يدي ، احسبي لي ألف حساب ...
خرج ، وكأن الأرض ابتلعته ، وماهي الا دقائق حتى عادت الممرضة يتبعها رجال من أمن المستشفى
الممرضة : ماذا قال لك ؟
المريضة : نفس الذي قاله لي الطبيب الأول ، ما اسمك ؟ كيف دخلت الى العصابة ، وأين الحقيبة ؟ وأراد أن يذبحني بخنجر كان في جيبه
الممرضة : ماذا قلت له ؟
المريضة : أقتلني ، ستريحني ، فانصرف ، وقال سيعود في وقت مناسب ، هددني.
خرجت تجري الى الهاتف
الممرضة : سيدي المحافظ ، لقد خدعنا ذلك الرجل الذي ادعى أنه طبيب ، انه شخص مجهول .. ألو .. ألو .. سيدي المحافظ .. هل أنت تسمعني ؟
كان المحافظ حينها يعيد قراءة المعادلة ويرتب احتمالاته الجديدة ..
المحافظ : اني أسمعك ، انتظريني ...
قطع المكالمة وقصد المستشفى
المحافظ : اذن ذلك الرجل ليس الطبيب ، ومن تتوقعين أن يكون ؟
الممرضة : أنا ؟ أتوقع ؟ وكيف لي أن أعرف ؟
المحافظ:أنا ما قلت تعرفين ، قلت تتوقعين
الممرضة : هل أنا متهمة بالتواطؤ مثلا ؟
المحافظ: انك تقولين أشياء خطيرة يا آنستي
الممرضة : أقسم ..فقاطعها قائلا ..
لا ، لا ، أبدا .. فقط ، لا يعقل أن أقدم ممرضة في المستشفى لا تعرف كل الأطباء ..المهم ، سنعود الى حديثنا هذا في الوقت المناسب أما الآن ... ماذا قال لها ذلك المجهول ؟
روت له كل التفاصيل وتأكد من المريضة التي كانت ترد بالاشارة ، كانت حالتها متدهورة جدا ... نظر الى الممرضة ابتسم وخرج ..
الممرضة : أرجوك ساعديني ، أنا الآن في ورطة ، قولي أي شيء ، على كل حال لن تخسري شيئا ، لأنه لم يبق لك شيئا ، الشرطة تعرف عنك كل شيء ، تعرف أنك تابعة لعصابة خطيرة ، وأنك عضو فاعل ونشيط ومتميز ، أفحمتيهم نجوت عدة مرات من الاعتقال بأعجوبة ، ولولا الحادث ما كان يكشف أحد عنك شيئا ... لا شك أن نهايتك حبل المشنقة ... نعم المشنقة ... أنت مجرمة ... مجرمة ... مجرمة ..ماذا ستستفيدين من سكوتك ؟
حينها كانت المريضة في طريقها الى غيبوبة أخرى ، فأرادت أن تهزها ولكن يد الطبيب كانت أسرع ، فأمسكها وأخرجها من الغرفة بكل هدوء ، وعاد يتفقد المريضة ، فحص عادي ، أمر ببعض الحقن ، أعادها الى وضعيتها العادية بمسكنات ولما هم بالخروج دخل المحافظ
المحافظ: أظن أن مهمتك انتهت يا دكتور ، ها قد جئت بأمر من النيابة لاستجوابها
الطبيب : هي لك ، تفضل
تقدم المحافظ فوجدها في غيبوبة تحت رحمة الأجهزة الطبية ، تراجع بغيظه يصبه على الطبيب ، ترك له استدعاء رسمي وخرج
نظر الطبيب باشمئزاز الى الممرضة ، أمر بأخرى لتمريضها وخرج ، بعد نهاية الدوام مر الى القسم ، سمعوه وحرروا له محظرا وذهب ، في اليوم الموالي أتى بامرأة سوداء من قسم الولادة ، دخل على المريضة وقال لها :
أمك تريد أن تراك
المريضة : تنظر اليه والحيرة تملأ وجهها
دخلت المرأة تبكي وكأنها هي ، حضنتها برفق وهي تسألها :
ماذا جرى لك يا بنيتي ، ماذا جرى ؟ من فعل بك هذا ؟ وكيف ؟
لماذا لم تخبريهم ليتصلوا بنا ، بحثنا عنك في كل مكان ..
لا تزال المريضة تنظر الى المرأة ، في حيرة ... وتنظر الى الطبيب
الطبيب : انتهت الزيارة من فضلك ، عودي اليها في المساء أوبعد الدوام ، المهم أنك تعرفت عليها ... لا تزال تحت الصدمة ..
المرأة : سنأتي جميعا في المساء ، هوني على نفسك يا بنيتي ، ارتاحي ...
خرجت المرأة السوداء ، ولا تزال المريضة في عالم آخر ، في غربة ، في دنيا أخرى ليس لها أول ولا آخر ، كأنها ولدت من جديد ...
الطبيب : ماذا بك ؟
المريضة: لا أعرفها يا سيدي ... وانفجرت بالبكاء .. أنا لا أعرف هذه المرأة ... لا أعرف أحدا .. بل لا أعرف حتى نفسي !!! أرجوكم ارحموني
تيقن الطبيب من الأمر الذي كان يشك فيه ، هز رأسه بأسف ، تنهد ، و لما هم بالآنصراف تذكر..
الطبيب : تابعوا نفس العلاج ، بعد أسبوع سنحولها الى القسم المختص ،اذا جاء المحافظ اتركوه يستجوبها ، لقد تجاوزت مرحلة الخطر.
الفصل الثاني
المفضلات