فسيفساء مقلدة
يترك مساحة للغياب بين سطور الوله، فتضيع قسمات الشوق بين الانتظار وفناجين القهوة الباردة. حين يرحل يترك رسائله تكتظ بالجمل التي لا تحمل همس الصبية بينها، كلمات عن الحياة التي يعرفها كل الناس. وبين المغيب والمغيب يتركها فريسة للمغيب.
"لم تختاري يوما الرجل (الصح)". تفتح فنجانا من القهوة فوق طاولتها المنتظرة بفنجانين أحدهما ساخن مع بعض السكر، "قهوة وسط" كما يسميه أهل عمان، والآخر بارد من دون سكر (سادة).
تبكي بمرارة على مقعد المقهى ودخان "الأراجيل" المنبعث من صدور الفتيات في المكان يخفي قسماتها.
تسأل جليستها الوهمية: "لماذا؟ لأنني تركت من أحبني، وأحببته ودفنته في قلبي.
أم الذي أحبني ولم أحبه
أم أتقصدين ذاك الذي أحببته ولم يحبني؟".
أجابت بعد أن رشفت من قهوتها الحلوة: "نعم؛ أقصدهم جميعا".
تركت قهوتها تبرد أكثر، فقد تعودت أن تترك الأشياء ببرود وتغير المواضيع لتتمكن من الاستمرار في غربة الحياة.
"هل أبدأ من جديد؟"، تساءلت، "أم إن المسافات أمامي في نهاياتها".
دفعتْ للنادل داخل صندوق خشبي مزين بفسيفساء مقلدة، وأخذت ترفل بين شوارع البلد المضمخة بالتراب بعد أن قرر المسؤولون تغيير حلتها. تذكّرها عمان بدواخلها التي تريد تغيير حلتها.
قهوة حلوة
عندما تتذكر أنها عاشقة، تتغير الأشياء حولها، القصة بين يديها تسهب إسهاب الروايات لشغفها بالتفاصيل، رائحة الياسمين التي يعبق بها المكان تصبح أكثر شدة وتغازل بحنان الأشجار القريبة.
رن جرس المحمول: "سأحضر إلى عمان غداً".
قفزت في مكانها كطفلة شدت قبضتيها نحو خصرها: "لا بد أن عمان سيدة المدن ستفرش غداً ياسمينها في كل مكان.. ستمطر سماؤها أزهارَها البيضاء وتغطي رؤوس الصبايا وأكف الأطفال وزجاج النوافذ وتصبح عمان مدينة الياسمين".
أمام فنجان من القهوة التركية السادة: "لا أصدق أنني معك الآن".
تلمع عيونه السوداء كنجوم أضاءت السماء للتو لتتحدث بكل اللغات: "اشربي قهوتك".
يصمتان قليلا ويكتفيان بمشاهدة الياسمين يمطر في كل مكان، يغطي النوافذ والساحات.
- سأسافر غدا.. ربما أعود قريبا.
ترشف بعضا من قهوتها، فتجدها بطعم السكّر، تنادي النادل: "طلبت القهوة من دون سكر، وهذه......".
يقسم النادل أنها كما طلبتها.
يتناول الشاب القهوة من أمامها ويرشف منها قليلا: "بالفعل حبيبتي.. إنها كما طلبتها؛ من دون السكر".
تومئ برأسها وتبتسم وتتذكر أن الأشياء بحضوره دائما تتغير.
ركبتان عاريتان
صبية الياسمين تزحف نحو مدائن حبه بركبتين عاريتين، فتجد أبواب المدائن كثيرة نحاسية وموصدة.
تدور في رحى الأبواب فيزداد نزف عروقها وتصرخ: "ارحم ضعفي، وإن لم تتمكن من فتح باب فهناك مئات من النوافذ مشرعة في مدنك، فاترك لي إحداها".
يطل رجل الأقحوان ليملأ المكان نسماتٍ من روحه: "أوصد الزمن أبوابي، وليس بإمكاني فتحها، ونوافذي ما هي إلا فتحات يعبث الريح بشقاوة فيها، فارحلي".
هامت صبية الياسمين، وأخذت عروقها تنزف أينما استقرت بها أقدار الهوى. تجمدت بعدها مدائن صبي الأقحوان عندما عرف أن التي كانت تصرخ من قعر المدينة هي فتاة الياسمين وقد غطى النزف ملامح البياض في قسماتها.
مذاق الروح
أحبت الصبية تمثالا من الوهم والندى وجدته أول طريق العشق يُذيبها فيه بعنف، برائحة الخزامى التي تملأ أنوف المارة، جلست في ظل التمثال تتحسس مذاق روحها وتتساءل: "هل للروح مذاق؟".
تحرك تمثال الوهم خلفها مقهقهاً: "مذاق الروح كحقيقة وجودي".
استدارت الصبية لتجد تمثال الوهم اختفى وحلت مكانه عشرات الفتيات يحاولن التعرف على مذاق أرواحهن فسألتهن: "ويحكنّ! وهل للروح مذاق؟".
ردت إحداهن: "وهل جربت الشوق وخفقان القلب في ظل رجل؟".
تبعتها أخرى: "هل نسيت الطعام والشراب، وقتلك الوقت انتظارا؟".
صرخت في وجههن: "دعكن عني! فقد جربت وهويت وانتهيت".
فسألن معا: "إذا ما هو مذاق روحك؟".
أجهشت الصبية في البكاء: "إنه مذاق الهوى ما يزال عالقا هناك خلف الروح يصبغها بصبغته".
سميرة ديوان
*نقل من جريدة الراي الاردنية
المفضلات