مورفين ..!
"أحتاجُ للحُزنِ أحياناً كما أحتاجُ لِلفَرَح، كلاهما شعورٌ لا تستطيع الإستغناء عنه في هذه الحياة، وربّما كان الحزن لتعرف طعم الفرح، ولربّما تكون التعاسة مفتاحٌ للسِعادة..!"
قلتُ لكَ ذلكَ يا "صديقي" –كما يحلو لكَ أن تُناديني- رغمَ رابِط الدّم الّذي يجمعنا، وما كنتُ أستطيبها مِن أحدٍ كما أستطيبها مِنك !
عَجَباً لي !!
أقولُ : "كنتً أستطيبها" !!
لِماذا أستخدمُ صيغة الماضي في حديثي عنك.. أنتَ لَم تَمُت بَعد !
قبل عشرينَ عاماً، وعِندما..
ماذا؟
عشرين !!
اصبحنا نتحدّث بالعشرين مِن السنوات، كما لو أصبحنا نتحَدّث ونلعب "بالألوفات" مِن الدنانير.. كلاهما مرّ كالحلمِ !
نعم .. كبرنا قليلاً يا عاهد، وصارت تصغر أحلامنا رويداً رويداً
كيفَ تنحصرُ أحلام "آخِر العُمر" في كرامةِ شيخوخةٍ، وفي ميتةٍ كريمة !
الموتُ ذلٌ وقَهرٌ، مَهما زيّنا صَدرَهُ بنياشين البطولة والفِداء ، لكِنّ أسبابه المُعتَبَرَة هي التي تعطيه الشرف والكرامة والشهادة..
وأنّنا نموت هي كارثةٌ بِذاتِها..!
لو كانَ في الموتِ غير ذلك ما صَكّ نبي اللهِ موسى ملكَ الموت على وجههِ لمّا جاءهُ قابِضاً .
يَكادُ قلبي ينفطر..
"الديوان" لم يوافِق بَعد على تحمّل نفقات عِلاجك في ألمانيا.. !
هذا وأنتَ إبن الديوان، ولازلتَ موظّفاً فيه، ومواطِنٌ "قُح" أيضاً، فَما يفعلُ "الغزّاوي"..؟!
أنا لا استغرِب يا صديقي، فأنتَ حالةٌ يئِسَ الطِبّ مِنها، كما ييأسُ القبرُ مِن لَفظِ دفينَهُ، ومِن العبَث هَدرَ الألاف على ميّتٍ ميّتٍ لا مَحالة..!
وأنتَ لستَ مليونيراً، فالمليونير مُفيد لِبَعضِ الوطن وتعامله الدّولة بِما يُمليه عليها ضميرها، ولربّما تعالجه رغمَ فائِضِ ما لديه، على نفقتها، مِن باب التكريم ليس أكثر..!
أنتَ إنسان، والإنسان أغلى ما تملك الدّولة، فإذا انتهت صلاحيته كأنسان –يُحرَث عليه- صارَ رَخيصاً عِندها ..!
لأجلِ هذا يا صديقي بدأنا نفهم لماذا " الشعب .. يريد .. اصلاح .. النِّظام"
لأنّ مُثلثَ التخلّف لا زالَت أضلاعه قائمة كلها " الفقر، والجَهل، والمَرَض"
ربّما أصبحنا في ضَحضاحٍ مِن الجَهلِ الآن، لكِنّنا في الدّرَكِ الأسفَلِ مِن الفقر والمرَض..!
ولدينا –تشبيهاً- أوديةً كأوديةِ جَهنّمَ، والعياذ بالله !
وادي غَيّ المحسوبيّة.. وادي وَيل السّطو على الشعب باسم الضّرائِب.. وادي سَقَر سَرِقات رؤوس الدولة لمؤسسّات الوطن !
وكلّها تصبّ في بحرِ الفساد والظّلم..
هاهو "شاهين" قد عادّ "مخفوراً" بالنّصرِ المؤزّر .. وها قد أودِعَ السّجن، وبقيت الملايين، في رصيدهِ المحجوز لحينِ خروجه، لِقاء إغلاق فَمه !!
ماذا نفعل بشاهين وكرش شاهين وشعره الأبيض ونظّاراته السميكة !!
هذه الملايين، كم مريضاً بالسرطان تستطيع أن تُعالجه، أو تخفّف مِن آلامِه ؟
يا عاهِد ..
يا عاهِد .. واللهِ إنّي يَعتصرني مالَم يعتصرني مِن قَبل، ولا أريد أن أفقدكَ الآنَ ولا غَداً .
أذكرُ كلماتك تِلكَ الليلة :
" قاسم شُفتك لمّا بكيت، طِلعِت "أبو دميعة" !! بِتفكّرني لمّا أفقد وعيي بفقد إحساسي ؟ أنا شُفتك.. نام عندي اليوم، ماشي"
كانت كلماتك هذه بأسلوبكِ التهكّمي الساخِر، والصادِق، والذي لا تعرف أن تُعَبِر عن ذاتِك بِغيرِه، كانت هذه الكلمات تزيد الطّين بِلّة !
لماذا لا تيأس كما يَئِسَ الذين ماتوا قبلك بالسرطان..!
لماذا لا تيأس، وتترك لي أن أواسيك، وأن أقول لكَ، اصبِر واحتسِب، خلّي أملك دايماً معلّق بربّك، لماذا تطردنا جميعاً عن كلّ شيء إلاّ الدعاء لك .
أنا أبكي الآن بِدموعٍ لم أبكِها مِن قبل..!
لقَد حاولتُ أن أنامَ بُعيدَ صلاة الفجر، فَلَمْ يرقأ لي جفن... وبكيتُ كما لم أبكي يوماً في حياتي، وخشيتُ أن أروّع زوجتي، فانكفأتُ جانِبا واستحيتُ أيضاً مِن بُكائي، فأنا لم أعرف البكاء كما عرفته هذا الفجر..!
لذيذٌةٌ جِدّاً هذه الشخرة التي تغصّ بِريقي بين حلقي وأنفي.. خِلتُ للحظات أن قلبي لامسَ سَقفَ حَلقي..!
ودافيءُ هذا الدمع الذي يسيل بشكلٍ مُضحِك، لا كدموع الذين رأيتهم يبكون..بل يخرجُ دمعي كفيضِ كوبٍ مِن الشاي، من جميع الأطراف، أو كما ظاهرة التوتر السطحي للماء حين تنهار ..
ما الذي يبكيني ؟ !
لم تمت أنتَ بعد حتّى أبكيك !
الليلة يا عاهد دعوتُ لكَ مِن صميمي، وبكيتُ حبّاً فيكَ وخوفاً لِفراقٍ باتَ وشيكاً .
حاول، لا ترحل يا عاهد ..
وكأنّك تريدُ ذلك !!
مَن سواكَ لا يقبل مِن الدنيا أن تُهينَ لَهُ شَعرةً بِشارِب، ويقبل أن أصفعه بِظاهِرِ يدي على صَفحةِ عنقك !
مَن لي مَن يقول للناسِ "كلّ الناس في كفّه، وأبو عبدالله في كفّه"
ماذا أعطيتكَ حتّى أجدُ هذا منكَ لي ؟!
مِثلكَ لا يعرف المجاملات ولا يصرِفها إلا بشتائِمٍ غير مُهذّبَة .
مِن غَيرِ مَن –مِن الرِّجال- أقبلُ أن ينعتني أحد بأوصافِ "قِلّة الأدَب" ويَمُدّ يدَهُ عابِثاً "بأشيائي" !!
بعدما يُشفيكَ الله، لا بدّ أن أصفعكَ على قفاك أيضاً، لِقاء ما أنا فيه الآن .. فقط قُم واشفى، أرجوك .
سنسهرُ كما كُنّا في أحراشِ عجلون، وسأتسكّعُ معكَ في حارات الزرقاء كما لم أكن أقبل، وسنذهب في رحلات قنص، بل رحلة واحدة فقط، فأنا ممنوعٌ من تعاطي الرّصاص !
عِندما غَشيكَ الوجَع وسقطَ كأسُ الماءِ مِن يدِك، وأردنا أن نحملكَ لِمُستشفى "الزرقاء"، رَفَضتَ أن نِحملك : "مستعجلين تحملوني .. "عرصات" ما بِدّي حدا يحملني، بس خليك جنبي ابو عبدالله اتراكّى عليك"
وفي الطريق أردنا أن نُهاتِف عَمنا الذي بينكَ وبينَهُ خِصام، خوفاً أن تضيعَ مِن بينِ أيدينا ولا يَحضُرك، فقلتَ ضاحِكاً، وانتَ في نِصفِ إغماء " احكوله عاهد مات بيجي ركاض.. طِلِع بيحبني المنحوس وانا بفكره بيكرهني !!" مِن أينَ تأتي بِخِفّة الدّم هَذهِ وأنتَ تموت !
وكيفَ قلتَ للطبيب : " بِدّي إبرة تِبطَح فيل مِش جَمَل، لأنّك قبل يومين ضِحكت علي وما عمل المورفين تبعك إشي"
وخرجنا مِن المستشفى وأنتَ تتهادى بيني وبينَ "علي" وقد أخذت الإبرَةَ مفعولها، وأنا أسألكَ مازحاً : "عاهد .. فاهم شو بحكي ؟؟"
فتردّ بِكل سُخرية وكلماتك تكاد تغفو فوقَ لِسانِك مِن شِدّة تأثير الحُقنة : "فاهِم .. فاهِم .. لكِن متعاجِز أرد عليك !!"
مِن أينَ آتي بابنِ عَمٍ مِثلك ..!
الليلةُ مزّقتني كما لم تمزّقني مِن قبل :
" أبو عبدالله أنا تعبان .. تعبان كثير.. أكثر مِن سِتة ساعات بمركز الحسين للسرطان والدكاتره مش قادرين يصحّوني مِن وجعي.. لا ميّت ولا حي.. يا قاسم إدعيلي.. بالأوّل ربنا يخفّف وجعي، وبعدين يشفيني.. إحكي للناس يدعولي..لا تنساني ابو عبدالله، محتاج دعواتك"
مَن أنا !!
مَن أنا حتّى يُستجاب لي يا عاهد ؟!
أنا رَجلٌ أرهقتني خطاياي، ولولا رحمة ربّي لكنتُ مِن المُعَذّبين، ولربّما لولا أطفالي ما رُزِقتُ، ولربّما لولا عَمَلٌ سَبَقَ مِنّي أعتقدُ إخلاصاً فيه لكُنتُ الآن خَبراً يُروى !
لكنّي دعوتُ لك، فالدعاءُ هو العِبادة، وارجو إن كانت بقيت لي دعوةً مُستجابةً أن تكون لك .
كانت صلاة التراويح هذه الليلة موزّعة بينَ أحبابي، وكنتُ مُخَدّراً تماماً، كيفما ركعتُ وكيفما سجدتُ وأنا أخشى أن تسقط السماء عليّ كِسَفاً..!
وكيفما أنصتّ للقرآن يُتلى مِن الإمام { كلّ مَن عليها فان، ويبقى وجه ربّكَ ذو الجلالِ والإكرام، فبأي آلاءِ ربّكما تُكذِّبان}
ولا بأيٍ مِنها ربّنا، ولا بأيٍ مِنها ..
إلاّ وتناوشتني أضّدادي تشريحاً..
كيفَ أستطيع أن أخرج بعدها مِن المسجدِ ضاحِكاً رغمَ مُثولكَ بينَ عيني، وفي قلبي تتربّعُ مِن النِّساء، ومُجامِلاً زوجَ أختي الّذي دعانا للإفطار..
وشَوقٌ جارِفٌ يحتضنني وتعبثُ شفتيه الرّقيقتينِ بِعُنقي..
وهاهي أمامي كأنني أراها الآن، في بيتنا ..!
"تنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات ."
أرأيتَ يا عاهِد..هذا الشوق الّذي بِداخلي "هو الذي يعرف كيف يلامس أنثى. تماما, كما يعرف ملامسة الكلمات..!
يحتضنها من الخلف, كما يحتضن جملة هاربة, بشيء من الكسل الكاذب.. "
وهو الّذي يجمحُ بي، كما تموج أنتَ داخلي وتغرقني في بَحرٍ مِن الحُزنِ والجّزَع .
سامحني يابنَ عَمّي ..
لا أملكُ لنفسي ولا لكَ مِن الأمرِ شيء ..
إلا دموعي ودُعاءٌ خجول..!
المفضلات