: "إيش بتأمر.. تخفيف ؟ "
غُصتُ في كُرسي الحِلاقة، وقلتُ بِكَسَل : " ترويق.. تحديد ؛ شعر ولحية وشارِب!"
ابتسمَ، وبَدأ بحركاتِه التي تُرخي الأعصاب وتُسَبِّب النُعاس.
"الحلاّق" تأمنه على رأسك وبيده الموس..!
براحتيهِ –كائناً مَن كان- ترغب بأخذ إغفاءةً قصيرة..
: " أوّل مرّة بشوفك هون !"
ابتسمتُ مُجامِلاً..ولعلّ أكثر الحلاقين يُحِبّون الثرثرة أثناء عملهم برأس الزبون .. لا يحلقون فقط، بل "يأكلون الرأس" !
: " أنا مِن العقبة .. مرّاق طريق يعني"
: " وجهك مُريح.."
: "شُكراً، مِن لُطفك"
: " كنت في العقبة قبل سبع سنين !"
: " شُغل يعني ؟ "
: " يا ريت .. كنت بدوّر ورا طليقتي !!"
نظرتُ إليه بِحِدّة، وتَذكّرتُ أننا وحدنا فقط في صالون الحِلاقة، ..قلتُ بِبُرود : " وأيوه..!"
: " أوصّي عَ قهوة ؟"
: " أنا مو مستعجل، خلّيها سكّر خفيف"
قال وهو يُداعِبُ لحيتي مِن خلف الكُرسي ويَنظُرُ فيها ليُساوي بينَ أطوالِها : " في ناس بتحب تحكيلها، وتفضفضلها، وأنا مخنوق "
كنتُ أستقبل كلامهُ ببرود، وبلا مُبالاة، وبلا فُضول، ظَنّاً مِنّي أنّهُ ليسَ أكثرَ مِن ثرثار، ولربّما سيتسلى بِكذبةٍ أثناء عمله، ولربّما هو أحمق يُثرثر للجميع، ولربّما هو لم يتزوّج أصلاً حتّى يُطلّق !
وأثناء لحظات غيابه ليوصي المقهى المُجاور، نظرتُ في رسالةٍ وصلت هاتفي الخلوي " الرقم ... اصبح مُتاح" إنّه رقم "معلّم القصارَة" الذي سيباشر غداً عمله في بيتي.
كانت الشمسُ تنثني للغروب، ولا يفصلنا عنها أكثر مِن ساعة، وكان الهواء صيفياً بارداً.
عادَ مُستبشِراً : " على حظّك، موجود عندهم جديد؛ بُن العميد "
قلتُ مُبتَسِماً : " بطّلت تِفرق، والسِرّ مِش في البُن لوحدة، في النفس إلّي بتعمل، وممكن تستغرب، لكن أطيب فنجان قهوة شربته كان بصالون حلاقة قبل أكثر مِن عشر سنوات، وكان مِن قهوة "البزوريّة" هون في الزرقاء، وكان الفنجان مكسور، والغلاية بتخزي، وعلى "غاز صغير"..والحلاّق إلّي عملها "بيحشش" !! "
قهقهَ ضاحِكاً، وأمسك المشط والمقص، وغرزَ أصابعه في شَعري يصوّب مَيلان رأسي : " كانت زوجتي، وما كانت طليقتي وقتها.. وهي سُكّان عمّان .. الجبيهة..!"
: "ها، نعم"
: " ثمان سنوات راحت هيك..لا والله، راحت ما تقضي عليّ"
: " مش واضح عليك إنّك كبير في العُمر"
: " صحيح، أنا أصلاً ما كمّلت خمسة وثلاثين سنة، يعني ما بزيد عنّك كثير"
ضحكتُ، وقلت : "وما أدراك ؟ "
قال : "يعني .. مِش أكثر مِن ثلاثة وثلاثين، صح !"
: " يعني، إشي زي هيك، خلينا بحكايتك، ليش طلقتها ؟ "
بَدأ يَقُصّ مِن شَعرِ رأسي : " قلت لأمي بِدّي بنت ناس، مِن بيت دين، ومُش مهم شكلها كثير"
إعترضتُ فوراً وبشكل مُفاجيء : " عفواً، كيف مش مهم شكلها ؟ .. يعني نظرك ستة على سِتّة وشكلك كويّس، فكيف مش مهم شكلها ؟"
: " صَدّقني، ما كان يهمني الشكل كثير، قد ما شفت وعِفت مِن حوا.. كان هَمّي بنت حلال تحفظ بيتي"
تردّدَ في صَدري زفيراً، وكأنّني إستشرفتُ باقي الحِكاية، ولكِن لا بأس مِن التفاصيل، لحين الإنتهاء مِن الحلاقة .
: " طيّب.. ليش العقبة ؟!"
: " طلبت مِنّي نرحل ع العقبة !"
: " هيك .. خَبِط لَزِق ! "
أخذَ يَرُشّ رذاذ الماء مِن بُعد على رأسي، وسَرَت فيّ قشعريرةً دَفَعَت بِدماءٍ نشيطةٍ في عُروقي، ورغبَةً في الجري.
قال : " أوّل ثلاث سنوات كانت المشاكِل عائلية خفيفة، وكانت تزعل بدار أهلها يومين، وترجع، ومعظم مشاكلنا مِن تدخلات أهلها بحياتنا.. أبوها كان صوفي أو درويش، ما بعرف كيف، لكن الدين عنده مظاهر وتقاليد. يعني لا فهم ولا تطبيق صحيح"
قاطعته : "شو تعليمك؟ !"
ابتسم بخجل : "ما صار نصيب أكمّل تعليمي، نجحت بالتوجيهي، ودخلت الجيش، تعلّمت مهنة الحلاقة، وبعد ثمان سنوات، "ترمّجت" وانهيت الخِدمة، وفتحت هالصالون.. لكِن بحب القراءة "
: "متى بلّشت المشكلة بينك وبين طليقتك، وشو دخل العقبة عفواً !"
: " أوّل ثلاث سنوات خلّفت ولد وللأسف بنت..!"
سألتُه وأنا أعرف الجواب : " ليش للأسف، بِنت !"
قال بِحُزنٍ ظاهِر : "البنت بتطلع لأمها.." واستدركَ مُتمنيّاً : "مِش دائماً..لكن غالِباً"
..واستأنفَ : " تمَّ استدعائي في مركز أمن صويلِح، وكانت طليقتي هُناك، و..."
وبَدأ صوتُهُ لا يَتعَدّى طبلة أذني، ولا أريد أن أفهمَ باقي الرواية النمطيّة المعروفة عن أخطبوط شبكات الدعارة، وكيفيّة الولوج في حفرةٍ ملساء لا فكاك مِنها.
كان ذِهني مشغولاً بـ "معلّم القصارة" ..!
المفضلات