بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
أرجو قراءة الموضوع بكامله وأعذروني على الإطالة .
من أخطر صور الانحراف عن منهاج الوسطية ، والبعد عن طريق رسول صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام ، ومن تبعهم بإحسان ، القول بتكفير أصحاب الكبائر وخروجهم من الإسلام ، تلك الفتنة القديمة الجديدة : قديمة ؛ إذ قالت بها فئة ضالة خرجت على جماعة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين ، فسماها المسلمون ( الخوارج ) ، وترتب على ضلالها في التكفير ، والقول على الله وعلى رسوله بغير علم ، فتن وخلافات بين المسلمين ، سُفكت فيها الدماء ، وانتهكت فيها الحرمات ، وقاسى المسلمون من آثارها المدمرة منذ بدأت إلى الآن ، آلامًا عظيمة ، ومحنًا كبيرة ، وجديدة ؛ لأن بعض الجماعات الإسلامية في الوقت الحاضر تقول بتكفير الحكام المسلمين والمجتمعات ا لإسلامية ، وتدعو للخروج عليهم .
وهذه الجماعات بهذا المسلك تلتقي مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر ، والدعوة إلى الخروج على ولاة الأمر ، وإثارة الفتن في صفوف المسلمين .
ومن أسباب ضلال أصحاب هذه الأقوال ، فهمُهم الخاطئ لقول الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة الآية 44) .
فقد فسَّروا الكفر هنا بالخروج من الدين ، وأنه لا فرق بين من وقع فيه ، وبين أصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام ، ولم يرجعوا إلى فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الأئمة المعتبرين في هذا المجال ، ولا إلى معنى لفظ الكفر في اللغة العربية .
وهذا مما يؤكد على ضرورة أن يكون الدعاة على علم بكتاب الله الكريم ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأقوال السلف الصالح في ذلك ، ومدلولات اللغة العربية في نصوص الكتاب والسنة .
إن لفظ الكفر في هذه الآية ، لا يدل على معنى واحد فقط ، وهو الخروج عن الدين ، شأنه شأن الظلم والفسق في الآيتين الكريمتين ، وهما قول الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } . (المائدة الآية 45). { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . (المائدة الآية 47).
فالوصف بالظلم ، أو الفسق لا يعني خروج المتصف به عن الإسلام ، فكذلك وَصْفُ من وصف بالكفر لا يعني خروجه عن الدين .
وقد بيَّن علماء السلف - رحمهم الله - هذا الموضوع أحسن بيان ، إذ قسَّموا الكفر إلى كفر أكبر " يُخرج من الملة " ، وكفر أصغر " لا يُخرج من الملة " .
وقد قال ترجمان الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية : ( ليس الكفر الذي تذهبون إليه ، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة ، هو كفر دون كفر ) .
وهذا التفسير هو الذي ينسجم مع النصوص الأخرى ، التي وردت فيها كلمة الكفر ، وهي لا تعني الخروج من الدين ، كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » . ( متفق عليه ) . فالكفر هنا هو المعصية ، والخروج عن الطاعة ، وليس الخروج من الملة .
يؤكد ذلك وصف الله تعالى الطائفتين المتقاتلتين بالإيمان في قوله سبحانه : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } . (الحجرات الآية 9).
فوصف الله سبحانه وتعالى الطائفة الباغية بكونها من المؤمنين ، وإن كانت تقاتل الطائفة التي على الحق .
ومثل ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم : « اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت » . (رواه مسلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض » . (متفق عليه).
فجماعات التكفير التي تطلق الكفر على الحكام ، أو على المجتمعات ، دونما تفصيل ومعرفة للأحوال والواقع ، تتابع ما قالته وفعلته الخوارج منذ القدم ، في مرتكبي الكبائر وتكفيرهم بذلك .
وقد استغل هذه الأقوال الخاطئة أصحاب الأهواء والمصالح ، من أجل تنفير المسلمين من حكامهم ، ودعوتهم للخروج عليهم .
إن على الدعاة أن يكونوا على بصيرة فيما يدعون إليه ، وما يتعرضون له ، من تفسير لآيات كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
إن قضية التكفير خطيرة لا يجوز بحال التساهل فيها ، أو القول فيها بغير علم وبصيرة .
فالكفر والفسق والظلم ، منه ما يخرج من الملة ، ومنه ما يكون كفرًا أصغرا ومعصيةً لله ورسوله .
فإذا ثبت للإنسان أن أحدًا استحل ما حرم الله ، واعتقد في نفسه ذلك ، حُكم عليه بالكفر المخرج من الملة .
وإذا لم يثبت ذلك ، فإن إطلاق الكفر المخرج من الملة عليه بمجرد ارتكاب الكبيرة ، أو فعل المعاصي ، خلاف منهاج أهل السنة والجماعة ، وصاحبه متوعد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قال الرجل لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ، فإن كان كما قال ، وإلا رجعت عليه » . (متفق عليه).
وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قتله مشركًا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، معتقدًا أنه قالها خوفًا من القتل ، حيث قال له صلى الله عليه وسلم : « أفلا شققت عن قلبه » . (رواه مسلم).
فالإنسان لا يعرف ما في قلوب عباد الله الذين يرتكبون المعاصي والكبائر التي هي دون الشرك والكفر ، ما لم يفصحوا عما في قلوبهم من استحلال ما حرم الله .
إن المتأمل لما عليه أهل الضلال من المسلمين فرقًا وأشخاصًا - وإن أظهروا حماسًا للإسلام ، واهتمامًا بأمور المسلمين - يدرك أن سبب ضلالهم ، هو تنكبهم عن الطريق الصحيح ، وفهمهم السقيم للإسلام ، والعمل به ، وبعدهم عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام .
وهم حينما يثيرون عواطف كثير من الناس يؤلبونهم على حكامهم ، وولاة أمرهم ، دونما تفريق بين حاكم وحاكم ومجتمع وآخر ، ودونما استناد صريح وواضح إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يخالفون طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته ، فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى توحيد الله ، والدخول في دينه ، وإفراده بالعبادة ، ويعلِّم أحكام الدين ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والصبر على ذلك . وهذا هو الطريق الصحيح للدعوة إلى الله سبحانه .
إننا نجد كثيرًا ممن يكفِّرون الحكام ، ويدعون إلى الخروج عليهم ، وتأليب الناس عليهم ، يقعون في أخطاء شنيعة في حياتهم الخاصة ، وتعاملهم مع الناس ، وفهمهم لأحكام دينهم ، بل قد يتساهلون في أمور لها مساس بالعقيدة ، وإفراد الله سبحانه بالعبادة ، فيدعون مع الله غيره ، ويبنون القباب والمساجد على القبور ، ويفعلون ما يُنكر ، من تمسح بها ، وطواف حولها ، وتقديم النذور والقربات لها ، مما قد يصل إلى الإشراك بالله ، عياذًا بالله من ذلك .
وخلاصة القول فيما يتعلق بفتنة التكفير التي وقعت فيها بعض الجماعات والطوائف في الوقت الحاضر ، امتدادًا لما كان عليه الخوارج منذ القدم : أنه ينبغي أن يحذر كل أحد من الدعاة الوقوع فيها ، وأن يحرص كل داعية على معرفة طريقة السلف الصالح ، والضوابط التي يجب أن تراعى عند إطلاق كلمة الكفر على أحد من الناس .
ومن أهمها : عدم تكفير المسلم بمجرد ارتكاب الكبائر والمعاصي ، فلا يحكم بردته حتى يظهر منه ما يناقض الشهادتين ، وأنه تجب إقامة الحجة على المسلم إذا ظهر منه ما يوجب الحكم بردته ، وأن علامة إسلام المرء الكافر ، نطقه بشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقراره بمقتضاهما .
وأن يفرَّق بين النوع والشخص ، فيقال : من قال كذا فهو كافر ، يُحكم على النوع والعمل ، دون الشخص .
أما الشخص المعيَّن ، فيجب التثبت والاحتياط في وصفه بذلك .
ومما ينبغي الانتباه إليه في هذا المقام ، أن أحكام الناس تجرى على ما يظهر منهم ، أما سرائرهم فالله يتولاها .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرًا أمَّنَّاه وقربناه ، وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال : إن سريرته حسنة ) .
وليس معنى هذا أنه يُحكم بكفره ، ما لم يرتكب مكفرًا عليه من الله برهان .
وهكذا كان طريق السلف الصالح ، يحكمون على الظاهر ، والله يتولى السرائر .
يحتاطون في أمر التكفير أشد الاحتياط، يجمعون النصوص بعضها إلى البعض ، ويفسرون مدلولاتها ، دونما تطرف أو غلو أو شطط .
إنهم يحكمون بالكفر والردة على من جحد توحيد الله سبحانه وتعالى ، في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته ، أو استحل ما أجمع المسلمون على تحريمه ، أو جحد فريضة ثبتت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونحو ذلك مما هو مقرر في مباحثه .
من كتاب : " الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله "
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
المفضلات