«عكاظ» تغوص في أعماق ملف تجارة العبيد قبل 150 عاماً
مـن يـشتري عبـداً وجـارية
إعداد فالح الذبياني
قلنا في الحلقة الأولى إن تجارة الرقيق أو ما يعرف محليا «العبيد»، نشأت منذ فترة طويلة وقد تصدت لها المملكة بحزم وقوة حتى تم القضاء عليها قبل نحو 50 عاما، وسنت من أجل محاربتها قوانين صارمة، وشكلت لجانا لمتابعتها حتى تم القضاء عليها تماما.
في هذه الحلقة المثيرة نستعرض نماذج من تجارة العبيد في اليمن والمملكة وبيروت وحتى في أمريكا وأوروبا، هدفنا الرئيس تسليط الضوء على صفحة سوداء مورست في حق الإنسانية، فيما لا تزال دول حتى الآن تمارس مثل هذا الانتهاك لحقوق البشر رغم الصرخات المتواصلة التي تطلقها منظمات حقوقية ودولية لوأد تجارة البشر والتصدي لها.
تجارة العبيد محلياً
يروي كبار السن ممن تجاوزت أعمارهم 80 عاما، صورا وقصصا عن العبودية وحالاتها في مجتمع ما قبل توحيد الجزيرة العربية، يقول جابر الحربي المقيم في مكة المكرمة نقلا عن جده، إن تجارة العبيد كانت مزدهرة وإن تجارا من أفريقيا والهند يحضرون معهم عبيدا ويستغلون موسم الحج لبيعهم بأثمان متفاوتة، ويضيف «يعمل هؤلاء في السقيا وجلب الماء، وخدمة الوجهاء ورجال الأعمال، البعض منهم يعمل في المزارع والحراسة، والبناء».
في كتابه ملوك العرب، يروي لنا الباحث أمين الريحاني في واقع تجارة العبيد قبل نحو 100 عام في الجزيرة العربية، حيث يؤكد أن رجال المال والأعمال الأفارقة يحضرون العبيد على ظهر بواخر ثم يعمدون إلى بيعهم في الأسواق اليمنية وفي جازان والدرب، حيث يقطع العبيد وتجارهم مئات بل آلاف الكيلو مترات حتى يصلوا إلى نقاط البيع، وبعد بيعهم يدخل العبد مرة أخرى في رحلة معاناة لا تنتهي.
في القرى وبعيدا عن صخب المدن انتشرت أيضا تجارة العبيد، حيث يحرص المزارعون وملاك المواشي على شراء العبيد، وتشير روايات عدة أن العبيد المستأجرين يعملون في رعي الغنم والزراعة والاحتطاب وتأمين المياه للشرب من الآبار، وبحسب ما رواه لنا سالم المقعدي فإن القرى القريبة من جازان وتحديدا قرى الساحل الغربي كان قبل نحو 150 عاما تعج بالعبيد حيث يشترى الشخص خادما.
ويضيف المقعدي «كانت ظاهرة شراء العبيد واحدة من صور الوجاهة وتحديدا لدى شيوخ القبائل الذين يتباهون بالعبيد ويفخرون بهم ويحضرونهم إلى جوارهم في الأفراح وعند قرع طبول الحرب أيضا». ويضيف «كان شيوخ القبائل يثقون في العبيد الذين يعملون معهم بشكل دائم ويحرسونهم ويقفون إلى جوارهم ويحمونهم أيضا، وفي المقابل كانوا يحسنون لهم ويقدمون لهم ما يحتاجون من المال والكساء والغذاء حتى إنهم يزوجونهم بجوار ويدعون لهم حرية التكاثر والتناسل».
ويزيد «عندما وحد الملك عبدالعزيز الجزيرة العربية كان من صلب أولوياته تحرير العبيد، ولهذا فقد أصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، عندما كان رئيسا لمجلس الوزراء قرارا تاريخيا بتحريم وتجريم تجارة العبيد، حيث احتفل العبيد والجواري بإعتاقهم، كما بادر أبناء المجتمع بالامتثال لقرار الدولة وتم تحرير العبيد بل ومنحهم مبالغ مالية تعينهم على العيش وتهيئ لهم فرص العمل والحياة».
بيع الأطفال للعواقر من النساء
بيع العبيد من الفتيان كبار السن ليس هو الصورة الوحيدة لتجارة البشر، بل كان هناك أشخاص يجلبون معهم أطفالا لبيعهم على النساء العواقر في المجتمع، وتشير بعض الروايات أن النساء المحرومات من الإنجاب يشترين أطفالا ويتبنينهم من أجل خدمتهن عندما يبلغن من الكبر عتيا.
تتحدث وثائق قديمة جدا أن ظاهرة تجارة العبيد في جزيرة العرب كانت متفشية إلى قبل توحيد الجزيرة العربية على يد الملك عبدالعزيز يرحمه الله، وتشير الوثائق أن الحجاز وهو الجزء الغربي من المملكة كان أكثر المناطق احتضانا لتجارة العبيد، ويرجع باحثون أسباب ذلك إلى تعدد الثقافات وقدوم قوافل الحجاج من الدول المصدرة للعبيد والرقيق، كانت أعمال البيع تتم بعقود وتبين وثائق أن قيمة الجارية تبلغ 4000 ريال، كان ذلك قبل نحو 120 عاما بشرط أن تكون الجارية التي تم شراؤها سليمة القوى العقلية وسالمة من العيوب الشرعية، وأن تقبل العمل جارية مطيعة لسيدتها دون تذمر.
وإلى جانب تجارة العبيد كان هناك مظاهر إعتاق لهم وتحديدا للجواري وتشير وثائق قديمة أنه كان من الواضح أن السيدات اللاتي لهن جوار يكتبن وثيقة تنص على إعتاق الجارية ومنحها الحرية عند وفاة سيدتها، وهو ما تم بحسب الروايات لجوار عدة أصبحن أحرارا وأسسن بيوتا وحققن نجاحات في حياتهن الأسرية والعملية. وتشير مصادر تاريخية إلى أن المتاجرين في العبيد كانوا يجلبونهم من مناطق في أفريقيا، بما فيها الحبشة وزنجبار في تلك الحقبة التاريخية.
عبيد بيروت
يقول الدكتور حسان حلاق في موسوعة العائلات البيروتية، وبما أن بيروت والمناطق اللبنانية كسائر الولايات العربية، فقد شهدت تجارة الرقيق لا سيما الرقيق الأسود في أسواقها، وهذا لا يعني أن كل من كان لونه أسود و(تبيرت) أو (تلبنن) أو تعرب عبر التاريخ أنه كان من ضمن الرقيق، لأن بيروت شهدت هجرات وموجات خارجية حمل بعض أفرادها اللون الأسود، منهم على سبيل المثال: الجنود السنغال في الجيش الفرنسي، والجنود المسلمون الهنود في الجيش البريطاني، ومن اليمن والسودان ومناطق عربية أخرى بين أعوام (1918 ــ 1946م).
ويضيف بما أن الرقيق يمثل دورا في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في بيروت، فقد وجد في المدينة سماسرة لبيع وشراء العبيد والزنوج، لاستخدامهم عند العائلات البيروتية في الدور والقصور والسرايات وعند الولاة والأمراء والأغاوات والباشوات والبكاوات، والأثرياء وكبار التجار والوجهاء البيارتة.
وزاد، للتأكيد على وجود عناصر الرقيق ــ ولا أقول طبقة الرقيق ــ لأنهم لم يمثلوا يوما طبقة اجتماعية بحد ذاتها، نظرا لقلتهم، فإننا نورد نماذج من القضايا المتعلقة بهم وبتحريرهم ودعاواهم والدعاوى المرفوعة على السماسرة وما شابه ذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ادعى عثمان آغا الإسلامبولي على سمسار العبيد الزنوج يوسف الخوري فرح لكونه باع عبدا زنجيا بثمن 22 ليرة فرنسية، ثم تبين أن في العبد عيبا وهو مرض صدري لازمه منذ القدم، وقد صدر الحكم الشرعي بفسخ الشراء وإرجاع العبد إلى صاحبه وإعادة ثمنه في 19رجب 1283هـ. وتضمنت الدراسة التي قدمها حلاق جانبا من صور التداول للفصل في قضايا العبيد ومنها، إنه في مجلس الشرع الشريف في مدينة بيروت المحروسة لدى هذا الداعي حضر عثمان آغا قول آغاسي بن محمد الإسلامبولي وادعى على الحاضر معه في المجلس المزبور يوسف بن أسبر الخوري فرح من أهالي وادي شحرور قائلا بدعواه عليه إنه من نحو 15 يوما اشترى المدعي منه هذا العبد الزنجي الحاضر في المجلس الذي سنه نحو سبع سنوات بـ 22 ليرة فرنساوية مقبوضة ليده تماما ثم الآن وجد فيه عيبا هو مرض الصدر، فيريد رده بهذا العيب واسترجاع الثمن المرقوم.
المفضلات