لم تكن هناك أكثر مِن صورة الموت ترتسم في مخيلتي وأنا أقودُ سيارتي باتجاه "الزرقاء"..!
هذه المدينة "البغيضة" لنفسي جغرافياً، تضم أحباباً كِثار، ومِنهم إبن عمّي "عاهد" الذي أسابق معه الوقت والدموع والحنين ..
هذا "السرطان" الذي أصابهُ، أصابَ مِنّا الخشوع للأقدار.
دمعتان كبيرتان بقيتا داخل محجرا عيناي، تكادان تحجبان الرؤية أثناء قيادتي لمركبتي..وكانتا تذوبان على زوايا العينين مع شِدّة الريح الداخل من نافذتي ، وكانت تزداد لزوجة لعابي داخل فمي.
توقفتُ عند أوّل بائع قهوة، ولملمتُ نفسي.. وتابعتُ إلى "الزرقاء الجديدة".
كان الهواء بارداً على غير عادته الصيفية، وكان الجوُّ رائعاً..
عندما استقبلني عاهد على باب البيت حاولتُ أن أخفي حنيني وانفعالي فَمَددتُ يدي مُصافحاً، لكِنّه لم يُخفي هو انفعاله، فأزاح بِظاهِر يده، يدي التي مددتها ، وعانقني بحرارةٍ بالِغةٍ لا مُبالغة فيها.
وهرع الينا اولاد عمي واحفاده .. وانتظم عقد الجلسة بعمّي وزوجته.
لم تكن هناك أي رتابةٍ في الزيارة، فقد حاولت أن أخالف نظام الزوّار الذين يدخلون بالدموع ويغرقون اهل البيت بها حُزناً على الشاب "المسرطن"، ويخرجون بمزيد من الدموع والدعاء وشبه الوداع !!
بلا شك أنّ القدر لا يردّه إلا الدعاء والصدقة وذلك ايضاً مِن قَدر الله، لكنه يُبالغون في نزفهم واستنزاف معنويات المريض واهله.
: "كيف أوكرانيا وراك" ؟
قلتُ ذلك وأنا أتناول قهوتي العربية مِن "الدكتور وائل" الأخ التالي بالترتيب بعد "عاهد" وقد آبَ مِن رحلة دراسة الطب في أوكرانيا، بعد سبعة سنين، لم تتخللها سوى زيارتين كل سنتين..وقُد كنت اتواصل معه أحياناً من خلال "الفيس بوك"، قال مُبتَسِماً "خَلَص .. مَضلّش أوكرانيا، راحت ايامها"
قالت زوجة عمّي : "عشان يا قاسم تقرأ على عاهد وتدهن ظهره بالزيت"
قلتُ ضاحكاً : " مساج تُركي يعني" !
نظرَ عاهد نظرة عِتاب لوالدته، فزجرتُهُ بذات النظرة : "ايش عاهد .. أمّك هاي، والغرقان بيتعلّق يقشّه، وهاي مش قشّه .. هذا قرآن عظيم"
: "يا قاسم مش هيك .. كمان شوي بنوصل عرّافين ومشعوذين من ورا هالسالفة .. و قبل يومين كنت عند مهندس كهربائي فاتحلي بيته عيادة للعلاج بالكهرباء الساكنة بالجسم .. شَل املي يا رجل .. هو مهندس ولاّ طبيب !!"
ضحكنا على اسلوب عاهد .. فالسرطان لم يسجب منه فُكاهته ولهجته الساخرة المُضحِكة .
وجاؤوا بالكنافة ومِن بعدها بالقهوة التركية .. كانت شمس الأصيل تنثني للغروب، وكنتُ قد إتّخذتُ مقعداً مقابلاً للنافذة المقابلة لِشُرفة الجيران رغبةً في نُسيمات باردة، لكنها حملت معها آنذاك عِطراً نِسائياً حادّاً، فإذا بِها جارتهم الجديدة –كما بيّن عاهد آنِفاً- !
وعلى "جناح الطير" هرَعَ عاهد مِن مكانِهِ وجلس إلى جانبي الملاصق للنافذة وأخذَ يُبَحلِق في تلكَ المرأة المُتبَرِّجة .. الشديدة الجمال بِذاتها والشديدة الفِتنة بِملابِسها البيتيّة الكاشفة !!
قلتً بصوتٍ خفيض : " احترم السرطان الي راكبك على الأقل، خلّي ربنا يشفيك"
فردّ دون أن يُزيح ناظريه : " أنا طِبت خلص .."
: "رح احكي لخطيبتك عنك !"
: " احكي لمرتك عن حالك يخوي .. "
وانفجرت مني ضِحكة حاولت اكتمها، فما استطعت.. ونظر لنا مَن في الغرفة .. عمي وزوجته والدكتور، لكنهم لم يُدركوا السبب، لأنّهم لا يرون ما نرا مِن زاويتنا .
وكانت "اللئيمة" تبادلنا النظرات غير آبهةٍ بِما نقول عنها ومِمّا نضحك .. لكنها كانت راضيةً مزهوّةً بذلك .
قلت له : "كيف بِدّي أقرأ عليك بعد هالشوفات"
تناولت قارورة الزيت الصغيرة، وجذبتُ عاهد من يده .. "قُم .. وك انته مسرطن "
: "شوي شوي .. خليها بس تفوت"
كان الكتور وائل أوسمنا شكلاً، فقلتُ لعاهد مُهَدِّداً : "احكي لوائل عنها؟" قال كمن اصيب بكهرباء : "أوعى، خليه بمستقبله ووظيفته الجديدة، بعد عظمه طري، لا يُغرّك سبع سنين باكورانيا.. بعده عذراء !!"
كنا نضحك بشكل هستيري .. وكنت ارى دوع الفرح تنحدر مِن عيون عمّي وزوجته رِضىً بِهذا الضحك .
وبعد أن صلّى كل من في البيت صلاة المغرب، بدأتُ أقرأ بما أحفظه من القرآن الكريم وامسحُ بالزيت على ظهر عاهد وجانبه المُصاب بالورم .
وبعد نصف ساعة من القِراءة، أخذتُ أبتهل بِما أحفظ من ادعية السنّة المأثورة، وكنت بذلك أنهي القِراءة .. نظرَ لي عاهد بعينين ناعستين قائلاً : " شعور عجيب بالراحة .. إقرأ كمان يا قاسم"
كنتُ أرجو اللهَ أن يتقبّل مني ذلك .. كنتُ ضعيفاً .
وبعد العِشاء خرجنا جميعاً إلى حي المعسكر، وكانت وليمة عَشاء ..
أثناء سيرنا ومرورنا بين الناس في الطريق لم تكد تسلم فتاة من نظرات ومعاكسات مَن في السيارة !!
قالت زوجة عمّي : "إيش بتحكو .. مِن وين بتجيبوا هالكلام ؟ "
قلت لعاهد : "خفّف .. بكفي خِّة دم .. معنا نسوان"
قال :"هاي أمي يارجل .. مش نسوان"
قلتُ ضاحكاً : "مهي كانت نسوان بهالزمانات" !!
فوجئت زوجة عمي بردّي، وعاتبتني مازحةً : "هلأ أنا مش نسوان يا قاسم.. بطلنا نسوان خلص"
.. كانت رحلة الطريق حافِلةً بهذا الحديث المَرِح، والقاء الترحيبات على النساء على جانبي الطريق..!
وقد رفضتُ حين أوصلتهم أن أدخل لتناول العشاء .. كنتُ مُتعَباً .. وأريد أن أدرك "إربد" قبل منتصف الليل، حيث أولادي هناك ينتظرونني وأمّهم عند خالتهم.
وأخذتُ عاهد جانباً قبل أن أتركهم .. وسألته بصوتٍ خفيض : "بتعرف توصلني لجبل الأمير حسن" ؟
رفعَ عاهد أحد حاجبيه وأرخى الآخر قائلاً : "شو إلنا هناك" !!
واستدركَ سريعاً .. "ماشي .. خليها بزيارتك الجاية .. عشان أضمن ترجعلي"
وأدرتُ المُحرّك أعالِجُ ضَحكاتي الممزوجة بخوفي مِن نتيجة الفحص النهائي بعد يومين لتحديد استخدام الكيماوي أو إستئصال الورم !!
وأخذتُ أقطعُ الطريق بسرعتي التي لا تفارقني حين قيادتي .. وأنا أفَكِر في حديثٍ يبلغ من العُمر سِتّة شهور !!
قلتُ حينها لها : "أنتِ تُطلقينَ العصفور الحبيس مِن صدري"
وأنا أدركَ الآن أنه لم يكن عصفوراً حبيساً .. بل كان حديقةً مِن الطيور..!
المفضلات