الإيمان كنز المؤمن ولغز الكافر [ ج 2 / ف 3 ]
وقد أذل الله هذه الطائفة الضالة على يد الإمام الفقيه المحدث "الأذرمي " رحمه الله في مناظرته مع رأس الاعتزال "أحمد بن أبي داود" ، التي أغلقت مسألة فتنة خلق القرآن ، التي أثارها المعتزلة .
فقد أغلق بكياسته وفطنته الفتنة دون أن يخوض بها ؟!!.
مطبقاً قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : ( من حام حول الحمى يوشك أن يقع بها ) ، رواه النسائي في "سننه" ، وأبو نعيم في "الحلية" , و الشوكاني في "الفتح الرباني , وفي "إرشاد الفحول" ، وهو صحيح على شرط الشيخان ...
و في الأثر : ( الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) ...
وإليكم التفاصيل :
سأل قدس سره زعيم المعتزلة ، بعد أن استأذن الخليفة الواثق ، قائلاً مسألتك هذه من صلب الدين ولا يكتمل الدين إلا بها .
فأجابه زعيم المعتزلة : "نعم" .
فقال الإمام : عندما أنزل الله أمره على قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أعمل بالآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [المائدة : 67] ، وبلغ كل ما أنزل إليه فقال زعيم المعتزلة : "نعم" ، فأستأنف قائلاً : أبلغ بهذا الأمر ، هنا صمت زعيم المعتزلة فقال الإمام للخليفة الواثق ، يا أمير المؤمنين واحده فأجاب الخليفة واحده .
ثم تابع الإمام قائلاً : ما رأيك بقول الله تعالى : ( ..... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ....... ) [المائدة : 3] ، أكان الله صادقاً في كمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه .
فصمت زعيم المعتزلة "أحمد بن أبي داود" ، ليخاطب الإمام "الأذرمي" الخليفة ، يا أمير المؤمنين "ثانية" فقال ثانية .
ثم أستأنف مخاطباً رأس المعتزلة : أوسع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بعد أن علم هذه المسألة أن يكتمها ، ووسع ذلك الخلفاء الراشدين وحبر الأمة ابن عباس من بعده أن يفعلوا ذلك ، فقال رأس المعتزلة : بلى ، في محاولة للخروج من مأزق الحصار الذي أوقعة به الأذرمي .
هنا التفت إمام الطبري و الترمذي إلى الواثق ، قائلاً : يا أمير المؤمنين إن كان قد وسع جدكم الأكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه الراشدين وابن عمكم حبر الأمة إن علموا هذه المسألة أن يكتموها ، فلا وسع الله عليك أن تحزوا حزوهم وأنت خير خلف لخير سلف ؟ .
فأجاب الواثق بلى أيها الشيخ الجليل ، ورفعت من حينها هذه المسألة ...
فهذه الحكمة الإيمانية مكنت هذا العالم الكبير من إنهاء أكبر فتنة كلاميه شهدها التاريخ الإسلامي ...
وقد ساعد في نجاح المناظرة وإغلاق الفتنة تخوف الخليفة العباسي "الواثق" من نفوذ المعتزلة الفكري وسيطرتهم على الشريحة الأكبر من المجتمع الإسلامي بسبب قوتهم الفكرية وقوة البيان والإقناع عند هذه الفئة ...
وقد أثنى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم على التفكر الرشيد ، إذ وصفه بأنه يفوق عبادة أعمار أمة محمد إذ قال : ( تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ) ، رواه العراقي في "تخريج الإحياء" رواية ( ستين سنة) ، ورواه السيوطي في "الآلئ المصنوعة" ( فكرة ساعة ) وقال له شاهد ...
وقيل في الأثر : ( تفكر ساعة تعادل قيام ليلة ) ، وهو وقف على أبي الدرداء.
ويقول ذو السبطين كرم الله وجهه : ( أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدره )...
ويقول سيدنا علي أيضاً : ( نبه بالتفكر قلبك ، وجافي عن النوم جنبك ، واتقي الله ربك) ...
ويقول أيضاً : ( لا عبادة مثل التفكر ) ...
ويقول : ( التفكّر يدعو إلى البرِّ والعمل به وأنّه مرآةٌ صافية ) ...
وأفضل ما قاله في هذا المضمار كرم الله وجهه : ( من ألزمَ قلبَه الفكر، ولسانَه الذّكر ملأ اللَّهُ قلبَه إيماناً ورحمةً ونوراً وحكمة ، لأن الفكر والاعتبار يخرجان من قلبِ المؤمن عجائِبَ المنطق في الحكمة ، فتسمع له أقوالاً يرضاها العلماء ويخشع لها العقلاء ، ويعجب منها الحكماء ) ...
وبالنتيجة إن التفكر الرشيد هو منبت المعرفة في قلب المؤمن ومعرفة الله هي رأس أو أصل العلم ...
عَنْ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا أتاهُ فَقَالَ: يا رَسُوْلَ اللهِ ، علمني مِنْ غرائب العِلْمِ ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وسَلَّمَ : ( وَمَاذَا صَنَعْتَ في رَأْسِ العِلْمِ حَتَّى تسألني عَنْ غرائبه ؟ )، فَقَالَ الرَّجُلُ: يا رَسُولَ اللهِ ومَا رَأْسُ العِلْمِ ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وسَلَّمَ: ( مَعْرِفَةُ اللهِ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ) قَالَ : ومَا مَعْرِفَةُ اللهِ حَقَّ مَعْرفتِهِ ؟، قَالَ صَلَّى الله عَلَيهِ وَآلَهُ وسَلَّمَ: ( أَنْ تَعْرِفَهُ بلاَ مِثْل وَلاَ شَبِيه، وَأَنْ تَعْرِفَهُ إِلَها وَاحِدًا أوَّلا آخِرًا ظَاهِرًا بَاطِنًا لا كُفْؤَ لَهُ ولاَ مِثْلَ ) ، رواه ابن عراق الكناني في " تنزيه الشريعة " ، وهو مرسل ...
وقد وصف سيدنا علي كرم الله وجهه تعالي الله عن أن يحد بالزمان و المكان بقوله : ( هو الأول لبس قبله شيء و هو الآخر ليس بعده شيء ، وهو الظاهر ليس فوقه شيء ، وهو الباطن ليس تحته شيء ، و هو الذي كمثله شيء وهو السميع البصير ) ...
وإليكم مثال عملي للتفكر الرشيد ، الذي هو علم المقارنة أو الاستنتاج ، و المثال هو العين فهي عضو الإبصار وهي عضو حساس جداً ومع ذلك هي أكثر عضو مقاوم لزيادة حرارة المحيط وانخفاضه ، ففيها مانع تجمد يقاوم البرد الشديد فإذا قارنا ذلك بنقطة المنشأ التي تصغر عن رأس الدبوس وهي العلقة على جدار الرحم لعرفنا أن هناك خالق مربي ، فالخلق إحداث شيء من شيء مغاير لمنشأة و الرب هو القائم على شؤون خلقة من عناية و رعاية و إمداد وتوجيه و إرشاد فمن أرشد الحدقة والعدسة في العين للمعايرة الآنية بما يتناسب مع حجم الأجسام المصورة وبعدها وقربها ونسبة الإضاءة المحيطة في آن واحد هل هي العلقة أو النطفة المجهرية الملقحة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ...
ولكي نرى أسماء الله من خلال التفكر فإننا نجد أنه يندفع في العين سائل على شكل نبضات بمعدل 16 نبضه بالثانية دون أن نشعر بذلك حسياً رغم أن العين تكاد تكون جمله عصبية حسية وهنا نشهد أسم الله اللطيف بتنظيم دخول وخروج السائل من العين دون اختلال أو زياد أو نقص في ضغط العين وهنا نشهد اسم الله الحسيب أيضاً ، ونطبق ذلك على أعضاء كثيرة مثل القلب الذي ينبض بمعدل وسطي يصل إلى 80 نبضه بالدقيقة وقوة النبضة تصل إلى قوة دفع شاقولي حر يصل إلى ارتفاع 30 متر وتزداد دقات القلب مع أي مجهود عضلي أو عصبي حسي أو حركي أو فكري ، دون أن نشعر بذلك أو أن تتمزق العروق أو الشرايين رغم أن منها الشعري و المجهري فمن صرف ذلك إلا اللطيف الحسيب عز وجل ...
ولكي يثمر هذا التفكر يجب البدء بأعضاء الجسم الظاهرة أو المرئية ثم الداخلية ثم المحيط المخلوق من قبل الله ...
ومع تراكم هذه البوارق المعرفة وتوسع المدارك ، تأتي مرحلة التسبيح وهو ارقاء وتوثيق معرفة الله في القلب تماماً كقدح الصوان المتكرر فوق هشيم الحرق حتى يستوقد نار تعطي بتوقدها الدفء "السكينة و الطمأنينة و الرضا" و الضوء " نور العلم " أو نور الشهود بمكاشفة الحقائق ، وإشراق القلب بنور الله حيث يبلغ بالنهاية العبد حق التقوى و اليقين ...
ويكون التسبيح تذكر المعرفة التي نبهت القلب مع ذكر اسم الله .. الله الله الله الله الله ....الخ وفق لعدد المعارف المطروقة أو استمرار التفاعل معها أو التأثر بها ...
وقد ثبت بالبحث العلمي في هولندا ، أن ذكر كلمة الله بشكل متكرر تؤدي إلى معالجة حالات الاكتئاب ، والتوتر العصبي لأنه عند لمس اللسان في سقف الفم يحدث تفريغ شحني عصبي لشحنة التوتر و الاكتئاب ...
منه نفهم الأهمية للإلصاق اللسان في أعلى الفم أثناء ذكر لفظ الجلالة " الله " ، فسبحان الله ؟! ...
ولا يشعل القدح إلا الهشيم اليابس إلا في قلب التقي النقي أي مخموم القلب فإن القدح لا يشعل العشب الأخضر فإن الدنيا حلوة خضرة ومحبة الدنيا رأس كل خطيئة كما أخبر بذلك سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة و التسليم .
لذلك يجب تفريغ ساعة من الزمن لإنتاج وتحصيل المعارف بالتفكر بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر لما في هذين الوقتين من عناصر مساعدة نفسية من خلال الهدوء أو عضوية من خلال غاز الأوزون الذي ينشط الأعضاء والجملة العصبية ويذهب العلل ، فقد ورد بالأثر : ( تعرضوا للنسمة "نسمة الصباح" فما من قوم تعرضوها وتركت فيهم عله ) لأن الأوزون الذي يتواجد في هذا الوقت ، يتحول في الجسم إلى هرمون الكورتزون فنشعر بهذا النشاط والحيوية في ذلك الوقت ...
إضافة إلى أن الكورتزون معالج عام لكافة الميكروبات على طلاقها ؟؟؟ !!! ...
أما بعد العصر فينشط بالجسم إفراز هرمون الأدريانين المنشط للقلب و الجملة العصبية و المسارات العصيبة العضوية كالكورتزون تماماً...
وهو ما يجعلنا نفهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من نام بعد العصر ، فاختلس عقله فلا يولمن إلا نفسه ) ، رواه القيسراني في "تذكرة الحفاظ" ، و الذهبي في " ميزان الاعتدال" ، والهيثمي في "مجمع الزوائد" ، و البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" ، يصح مرسلاً ...
قال تعالى : (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ۞ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب :41-42] ).
ويقول تعالى في الحديث القدسي : (ابن آدم اذكرني بعد الفجر ، و بعد العصر ساعة ، أكفك ما بينهما ) ، رواه الإمام أحمد في "الزهد" ، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" ، ويصح مرسلاً ...
ولكن قد يسأل سائل هل التفكر هو المدخل الوحيد على مراتب الإيمان و الجواب لا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن للإيمان ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة طريقة من لقي الله بالشهادة بطريق منها فله الجنة ) ، ورد في كتاب الإحياء للغزالي ..
بسم الله الرحمن الرحيم : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [البقرة : 148] ...
ولكن التفكر هو المدخل الأفضل في عصرنا الحالي عصر العلم و التكنولوجية و الفتن ، لأنه يولد في النهاية مع التسبيح ، الإقرار بالتوحيد وهو حصن المؤمن وثمن الجنة ، المتمثل بالعلم بلا إله إلا الله .
و سلعة الله غالية كما أخبرنا المصطفى عليه الصلاة و السلام : ( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) ، رواه الترمذي في "سننه" ...
نهاية الفصل الثالث و الأخير من الجزء الثاني ...
المفضلات