بُعيدَ غروب الشمس، ومساءٌ شتوي آخر في آذار
كانَ البردُ يبعثُ دِفئاً في قلوب العاشقين
وكانا يقطعان الشارِع ،
فجأة.. جذبته مِن ذِراعِهِ للخلف وألصَقت نفسها بِها : " والله بَموت وراك..!"
لم يكن الخطرُ وشيكاً، لكنّها لم تضبط إنفعالها، فهي توهمت السيّارة قريبةٌ جِدّاً
إمتلأ غروراً وإمتناناً وقال لها : " مِش بردانِه ؟ "
أجابَت بِدلال : "حَد بيكون معك وبيبرد ؟! "
نَظَرَ لِقميصها الأصفر، وتنورتها المتماسِكة، وضَغطَ بِعضلة عضدهِ على كفِّها : "أنتِ أجمل كل يوم "
وواصلا سيرهما للمقهى..
: " أسيل بِدها تشوفك .. عزمتها ! "
: " مِش غيرانِه عليّ، وكيف بترضى تكون بيني وبينك ؟"
: " أسيل كويسة، مِش زي ما بيخطر ببالك.. حكيتلها عَنّك، وحابّة تشوفك .. وأنا كمان بِدّي اياها تشوفك "
وواصلت خافِضةً صوتها : " هيها وصلت، خَلَص، مَشّي الليلة..!"
كان المَقهى أكثر مِن رائِق، واختارت أسيل زاوية الجلوس .. كانت زاويةً مِثاليّة !
أسيل لم تكن جميلة الشكل، لكِنّها كانت بَحراً مِن الأحاسيس، ومُدناً مِن الضياع، وكانَ لِسانها "سوق عُكاظ"
وبدأت السهرة على غيرِ رتابةٍ متوقّعة، كانت أسيل تبدأ وتنهي كل نِقاش، وكان هو مسروراً مِن ذلك
وجاءَ النادلُ بالقهوة ..
كانت القهوةُ خُرافيّة الحُسنِ والنّكهة تِلكَ الليلة..
ثلاثة فناجين بورسلان أبيض.. وكؤوس الماء .. مناديل بيضاء منقوش عليها إسم المقهى..
لم يكن السحرُ فيها بقدر ما هو في نفوسهم ..
قالت أسيل : " بِدّي أسمع مِن شِعرك..إذا تكرّمت !"
تنحنح، وأتى على آخِر مافي فنجان القهوة، ثمّ بَدأ يَتَدَفّق ..بنبرة صوتِهِ التي يَعرفُ تماماً ما تفعلُ في سامِعها
كان يُحِبّ صوتَهُ .. وأصابعَ يديه .. ونظرتهُ الداخلة في عيون الناس.. ورائحة جسده أيضاً..!
ما أن أتمّ قصيدته، حتّى فوجيءَ بتصفيقٍ حادٍّ مِن أسيل، وكأنّها للتو سَمعت قرار تأميم قناة السويس ..!
" رائِع .. أنتَ رائِع .. نيّالِك يا سِتّي" !!
جميع مَن في المقهى قطعو ارسالهم واستقبالهم لحظة تصفيق أسيل، ثمّ عادوا لِما كانوا فيه، والبعض بقيَ يُتابع !!
شَعرَ بِضيقٍ مُفاجيء..!
أخذَ يُنهي .. ويُحاول أن يُحافِظ على الصبغة الرسميّة للسهرة..
وبَعدَ أن أوصلا أسيل بسيارتِهِ إلى بيتِها ، قالت أسيل
: "لازم تنزلوا تشوفوا ماما.. كير رح تحبكو وتحبوها، ومنشان واجبكوا، صِرتوا واصلين"
واعتذرَ بأدبٍ جَم، وبشكل حازم !
قالت له وهي تضع رأسها على كتفه : "معلش حبيبي، أسيل زودتها، بس هي طيوبة وحبّابِة"
خفّفَ مِن سُرعة السيّارة، وضغطَ بيدهِ على يدها مُفَرِّغاً عاطِفةً صادِقةً تجاهها، وقال لها
: " لاتُصدِّقي أننّي سأحب يوماً غيركِ "
وإزدردَ ريقَهُ ..
شَعرَ أنّهُ يكذِب ..!
المفضلات