معصوبُ العينين، ومُقيّدُ المعصمين خلفَ ظهرِهِ..
يَدفعهُ حيناً و يَجذبهُ حيناً مِن مِرفقِهِ الأيسر –الأضعف- جُنديٌ، يسيرُ بِهِ بِخطواتٍ ثابته وسريعة إلى مكتب الضّابِط
في الواقع، وما يجهله غيره، أنّ تعصيب العينين فِكرةٍ قديمةٍ مِن "عُقَد السّتينات"..وفاشلة!
كان يَرى مابين زاوية أنفهِ الأقنى وأعلى خَدِّهِ الناعِم موطىء قدميه، فَضلاً عن أنّ حتى العُميان يحفظون خطوات الذهاب والإياب مع طول المُكث وكثرة إرتياد الطرقات..
"ماعلينا" .. كان يخاطب نفسه .. وكان "يَستعبِط"، فيوهم أنّه يسير على غير هُدى. وأنّه يتهادى، ولولا قبضة الجندي .."كان فات بالحيط" !!
قال الضابِط : "مُجرم نسوان حضرتِك.. موحِّد الأمّة العربيّة بمراسلاتك مع الحريم..
عراقية .. ليبيّة .. يمنيّة ...جزائرية ..سوريّه.. مِش مخلي ..حتى السعوديات والسودانيات !!"
-: "مفيش سودانيات سيدي"
-: "عفواً"
-: "سودانيات.. حضرتك حكيت سودانيات .. وما عندي مراسالات مع السودان سيدي" !
-:" أقعد .. أقعد" - فكّ عن عيونه"
..إنصرَفَ الجندي
وبقي الضابط يبحلق فيه ..
: "شو دخل النسوان سيدي بسالفتي، أنا ليش هون ؟ "
-: " شو تشرب؟ نسكافيه .. قهوة !"
كان منذ ثلاثة ليالي وهو "خرمان ع" فنجان قهوة .. لكنه أجاب بلا وعي "نسكافيه !"
وكان "محشش ع سيجارَه" والضّابط يتلذذ بسيجارة "مالربورو"
"بدّي دخان .. بدي أدخن سيدي.. الشباب أخذوا دخاني وقَدّاحتي"
ابتسم الضابط "بقرف" وفتح احد دروج مكتبه، وتناول منه علبة سجائر جديدة
: "دخّن هون .. ممنوع الدخان في الزنزانِه .. دخنه كله إذا بتقدر.. ع حسابك.. وروّق عشان ندردش"
كان يعلم تماما لماذا هو هنا.. وكان يحاول عبثاً تفادي الإعتراف !
.. وبَدأ الإعتراف يجر أخاه !
وبعد أسبوع.. تمّ تحويله لدائرةٍ أخرى، بمدينةٍ أخرى، وزنزانةٍ أخرى، وضابطٍ جديد.
قال له الضابط الجديد : "بِدّك تكمل ع نفس موّالك القديم؟
بتحب أقرأ لك شو خلاصة وقناعة الدائرة الأولى؟
إسمع .. "مراوغ، يختلق القِصَص والأكاذيب" !
شوف يا إبني ، بتاريخ هالدائرة، أو إدارتي إلها ما احترمنا واحد زي ما احترمناك.. بجوز وجهك مُريح، وطيّب، لكن فعايلك "شينِه"..
بِدّي أحكليك كلام مفيد، بجوز يساعدك :
مِش إنتَ الوحيد إلي بيحب البلد، ولا الوحيد الي عارف الصح، ولا الوحيد الي بِدّه يصلِّح.. ولا الوحيد إلي بيكره اليهود
مِش بس إنتَ إبن البلد!!
افراد وضُبّاط هاي الدائرة ولاد بلد.. وبيّاع الترمس إلّي براس الشارع إبن بلد .. والحكومة بنت بلد
والمفروض كل واحد بيتنفس هوانا وبيشرب ميّتنا وبيشاركنا خبزنا .. يكون إبن بلد مثلنا
لكن ولاد الأبالسِه يا إبني بكل مكان موجودين ..
مش كل إشي بيزبط بسكاكا ومالطا بيزبط عِنّا !
فسيبَك من سالفة "سهل البقاع" الي نقرت مخنا فيها.. ورَكِّز معي
في نظام بيحكمني وبيحكمك.. وبيحافظ علي وعليك.. فلازم نحافظ عليه .. ممكن يكون في اغلاط .. والغلط ما بيتصلّح بغلط
ولا تفكّر الدّائرة بتطلب منك أسماء صحابك .. إنتَ آخر واحد بمجموعتك!
ولا تفكّر إنّه بِدنا منك معلومات .. خالصة يا إبني ، وبنعرف عنكم أكثر منكم .. لكن الي مثلك من الشباب بيهمنا يفهم الصح
عشان غيره يفهم منه..
فهمت يا إبني .."
وكان قد وَعى مقالة الضابِط الحكيم .. و ودّ لو بقي جاهلاً، بل قد وعى أكثر مما أراد منه الضابط ..وأكثر مِمّا نَطق به !
لقد قضى هذا الوعي على آخر النّزق الّذي كان يحيا بهِ..
بعد اسبوعين .. توقّف التاكسي أمام مبنى الدّائرة الأولى
دَلفَ بعد الإستعلامات إلى مكتب الضابِط الأول
قام الضّابط مرحِّباً بِهِ .."اهلاً وسَهلاً .. شو؟ مغيّر تمشيطة شَعرَك" !
:"إجيت أشرب شاي معك .. قصدي قهوة ..ممكن؟"
المفضلات