الإيمان كنز المؤمن ولغز الكافر [ ج 2 / ف 2 ]
وقبل العودة إلى بحث الإيمان نقول أن تعريف الولي : " هو من أغرقه الله بنور محبته و تولاه برحمته وولاه عباده المخلصين " و في تعريف أخر " هو من خصه بمحبته وتولاه الله برحمته وولاه عمن سواه إلا عبادة المخلصين " لأن الله يحب المحسنين .
أما حقيقة المحبة لله : "فهي محق ما في القلوب من سوى المحبوب" .
والآن علينا أن نعرف كيف نصل إلى الإيمان وحقيقته الكامنة بمحبة الله وخشيته .
ويكون ذلك بتطبيق آية القرن الواحد والعشرين : ( لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) [الأحزاب : 21] .
فقد كان الأمر للمؤمنين قوله عز وجل : (َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) [الأحزاب : 41].
فكيف يكون ذلك في عصر الفتن و الفساد وكثرة المشاغل ؟؟؟.
و الجواب يكون بمعرفة الله فقد ورد في تفسير ترجمان القرآن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه أن تفسير آية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات : 56] ليعبدون أي ليعرفون .
فإذا أردنا أن نصرف ونشرح ونمدد ونجزئ كلمة ليعبدون إلى قسمين لأصبحت "ليعوني بما هو دوني" أي ليعرفوني بآياتي وآلائي وأسمائي وصفاتي ، فقد قال سلطان العارفين "أبو يزيد الأكبر " قدس سره : ( عرفت الله بنور صنعته ، وعرفت صنعته بنوره ) .
يقول ذو السبطين كرم الله وجهه : ( أساس الدين ودعامته المعرفة بالله ) ، لأن المعرفة تولد التوحيد و المحبة فيخلص القلب للمحبوب المهاب لأن رأس المحبة "الإخلاص" والإخلاص أيضاً جوهر التوحيد .
ولكن كيف ؟؟؟...
تعالوا نتأمل ونتدبر أول آية أنزلها الله على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) [البقرة : 97] .
فقد قال تعالى في أول آية نزلت : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ۞ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق :1- 2] ) ....
فأقرا إن كانت موجهه إلينا من خلال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم تعني تحقق وتبين سمة الربوبية بالخلق في أنفسنا لأنها الأقرب منا لقوله تعالى : وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات : 21] وقوله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ ................... [ الروم : 8 ] ...
ولكن كيف يكون ذلك ؟؟؟...
أما عند الأولياء فيكون بنظرة تأمليه وفق أصدق الشعر كما أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم عن شعر لبيد :
تأمـل سطور الكائنات فإنها ۩۩۩۩۩۩۩۩۩۩ من الملأ الأعلى إليك رسائل
قد خط فيها إذا تأملت خطها ۩۩۩۩۩۩۩۩۩۩ ألا كـل ما خـلا الله باطل
وهي النظر مع العبرة تسنياً بسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان إذا نظر اعتبر ...
وكما يقول باب مدينة العلم ، سيدنا علي كرم الله وجهه في وصف المؤمن ملتمس ذلك من مدينة العلم ، سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المؤمن إذا نظر اعتبر ، و إذا سكت تفكر ، و إذا تكلم ذكر ، و إذا استغنى شكر ، و إذا أصابته شدة صبر ، فهو قريب الرضا ، بعيد السخط ، ينوي كثيراً من الخير ، ويعمل بطائفة منه ، ويتلهف على ما فاته كيف لم يعمل به ، و المنافق إذا نظر لها و إذا سكت سها و إذا تكلم لغا و إذا استغنى طغى و إذا أصابته شدة عصا فهو قريب السخط بعيد الرضا ، ينوي كثيراً من الشر ، ويعمل بطائفة منه ، ويتلهف على ما فاته كيف لم يعمل به ) ...
وهو القائل : (العاقل إذا سكت فكر وإذا نطق ذكر وإذا نظر اعتبر ) ...
صدق وزير سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ...
والاعتبار لا يكون إلا مع الصفاء وينعكس وجدانياً من الفؤاد إلى اللسان عند الاعتبار بكلمة سبحان الله ، أو لا إله إلا الله ، أو الله أكبر أو لفظ الجلالة " الله " ممدودة ...
يقول الغوث الأكبر " عبد القادر الجيلاني " قدس سره في كتاب "الفتح الرباني والفيض الرحماني" : ( اشتغل بطهارة قلبك أولاً ثم تعرض للمعرفة ، إذا ضيعت الأصل لا يقبل منك الاشتغال بالفرع ، لا تنفع طهارة الجوارح مع نجاسة القلب ، طهر جوارحك بالسنة وقلبك بالعمل بالقرآن ، أحفظ قلبك حتى تنحفظ جوارحك ، كل إناء ينضح بما فيه ) ...
أما عند العلماء فيكون بالتفكر أو المقارنة من خلال ميزان الشيء وأصله أو منشأه فأصل تكوين الإنسان العلق ؟؟؟.
لقوله تعالى : (َقالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) [الكهف : 37] .
وقوله جل من قائل : ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ) [يس : 77] .
وقوله وهو أصدق القائلين : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ۞ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ۞ َخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ) [الطارق :5-7] ...
فالتفكر : هو الاستدلال على المؤثر بالأثر ، و يكون بإنتاج أو إنبات معرفة في القلب بالموازنة بين معرفتين مثل الشيء ومنشأه ، لقوله تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ) [الشعراء : 182] ، وبيان ذلك في قوله تعالى : (َأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) [الرحمن : 9] وخصوصية أولي العلم بذلك قوله تعالى : (َشهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران : 18] ، أي أن تقوم المعرفة في قلوبهم على أقساط .
يقول الله تعالى في فضل العلماء : ( و َلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [الحج : 54] ... وتخبت أي تخشع و الخشوع يعني أن تسكن مع الله خشية و وجلا ...
وقوله أيضاً : ( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ) [الإسراء : 107] ...
وخسران الميزان هو التفكر بذات الله .
وشرح ذلك من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا بالله فلن تقدروه حق قدرة ) ، رواه البيهقي في " شعب الإيمان " ، و قال في إسناده نظر ، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" و "السلسلة الصحيحة" ...
و دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرة المسجد فوجد عدد من أصحابه صامتين ، فقال : ما جمعكم ؟ فقالوا اجتمعنا نذكر ربنا و نتفكر في عظمته , فقال : ( تفكروا في خلق الله و لا تتفكروا بالله فإنكم لن تقدروا قدره ) ، رواه أبو نعيم في "الحلية" ، بإسناد حسن وقال رجاله ثقات ، والعجلوني في "كشف الخفاء" ، و السخاوي في "المقاصد الحسنة" ، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" ، وورد في كتاب التفكر في إحياء الغزالي ( فمن تفكر بالله هلك ) . لأن التفكر في ذات الله إشراك ...
لقوله تعالى : (َمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الزمر : 67] .
يقول الصديق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه : ( العجز عن درك الإدراك إدراك ، و البحث في كنه ذات الله إشراك ) ، رواه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ، فكلمة الله تعني ( المطاع الفعال لما يريد ، إليه يرجع الأمر كله ، وهو من تألهه تولهه القلوب ) ، فمن من كائن لا ينشد الراحة والاستقرار في هذا الكون حتى الشمس تجري لمستقر لها لقوله تعالى : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) [يس : 38] .
ويقول الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه : ( لو عرفتم الله عز وجل حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ، ولو خفتم من الله حق مخافته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل ، ولكن لم يبلغ ذلك أحد،قيل يا رسول و لا أنت ؟ !! ، فقال ولا أنا فالله عز و جل أعظم من أن يبلغ أحداً أمره كله ثم تلا الآية :"وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً "( [الإسراء : 85] ، رواه العراقي في "تخريج الإحياء" ، و السيوطي في "الجامع الصغير" ، و المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" ، ويحسنه شاهده ...
ويقول الإمام الرباني الوارث لمقام النبوة ، سلطان العارفين "أبو يزيد البسطامي " قدس الله سره العزيز : ( المعرفة معرفتين ، معرفة الحق ، ومعرفة الحقيقة ، فأما معرفة الحق فقد عرفها المؤمنون بنور الإيمان والإيقان ، و أما معرفة الحقيقة فلا سبيل لها ، لقوله تعالى : (َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) [طه : 110] .
وهذا النوع من التفكر هو الخلل الذي أصاب عقيدة المعتزلة فدخلوا في مضمار الشرك دون أن يدروا ، واتجهوا إلى تغذية الجانب الفكري المادي في العقيدة من خلال البحث بالكيفية و الأبنية ، فضل سعيهم من التحصيل الروحاني الإيماني ، إلى التحصيل فكري مادي عقيم ...
وما يضلل مبدأ الاستدلال الفكري ، أيضاً أن يكون القصد فيه "الفتح" أي النتيجة المعرفية المعاشية بدل "الفتاح" النتيجة المعادية التي تنتج رابطة وصله خفية مع الله الجليل ، فهو يعطي نتيجة عكسية ، تكمن في التفات المتفكر من الوصول إلى معرفة الله وانصياع النفس الإنسانية لعظمة وجمال معاني الإلوهية و الربوبية إلى معرفة الماديات ، فتكبر النفس لاستحواذها العلم ، وهنا يكمن الخطر ...
"يحكى أن الإمام الحجة "أبو حامد الغزالي" قدس سره ، بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال: فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لشيخي الأكبر "أبو علي الفارمدي" قدس سره ، فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله تعالى الحكيم" ...
لقوله تعالى : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) [الكهف : 104] ....
نهاية الفصل الثاني من الجزء الثاني ...
المفضلات