الإيمان كنز المؤمن ولغز الكافر [ ج 1 / ف 2 ]
ربما يسأل سائل ما هو الإيمان و ما هي حقيقته وما دلالته و ما أهميته للإنسان ؟؟؟؟.
الإيمان وفق الأثر الشريف بقول سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم : ( ليس الإيمان بالتمني و لا بالتحلي، و لكن هو ما وقر في القلب ، و صدقه العمل ) ، رواه السيوطي في " الجامع الصغير" ، و الصعدي في "النوافح العطرة" ، وهو حسن لشواهده [إبراهيم : 27] و [يونس : 9] و [مريم : 96] و[الحج : 50] و [العنكبوت : 9] و [الروم : 15] ...
وهذا الحديث صحيح على شرط البخاري :
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : ( سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ , وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا وَقَرَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي ) ، رواه البخاري في "صحيحة" ...
وتوثقه الآية : (ِإنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [هود : 23] ...
فخبت أي سكن وثبت واستقر ، وهو معنى وقر أيضاً ...
ولكن السؤال الآن ما الذي وقر بالقلب و الجواب و الجواب البديهي هو "الإيمان" بمعنى فسر الماء بعد الجهد بالماء .
ولنحل هذه المعضلة علينا أن نعرف معنى كلمة إيمان أولاً فكلمة إيمان لغة هي "التصديق" وتصريفاً هي كلمة جامعة لمعنيين متلازمين هما الأمان و الاطمئنان أي أمان من الله يورث الطمأنينة في قلب المأمن ، ولكن كيف نشعر بهذا الأمان وكيف نستحوذ عليه .
سوف نسرد قصة مجازية يراد بها العبرة فقط ، قال تعالى : (.............. فاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [الأعراف : 176].
يروى أن هناك زوجين متحابان ولكن بطباع مختلفة فكان طبع الزوج هادئ و الزوجة ذات طبع حاد ، وشاءت الأقدار أن يقوموا برحلة بحرية هاج خلالها البحر لدرجة الخطر فثارت ثائرة الزوجة خوفاً دون أن يحرك الزوج ساكن فوجهت الزوجة ثورتها على الزوج بسؤال غاضب { ألا تخاف ؟ } فكان الجواب أن غضب الزوج مستل خنجر وضعه في نحر زوجته ثم قال لها نفس الجملة فقالت الزوجة دون تردد " لا " فسألها الزوج لما فقالت لأن الخنجر بيد حبيبي ، فأجابها الزوج وأنا لا أخاف من البحر لأنه بيد { حبيبي } وكان يقصد الله عز وجل ...
ومن هذه القصة نجد أن المحبة لله تورث الطمأنينة والسكينة ولكن ما مصداق ذلك من كتاب الله في محبة الزوجين التي وصفت بالمودة و الرحمة وهو الحب الأصغر الذي يستدل به على الحب الأكبر "محبة الله " لقوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) [الروم : 21]
ومصداق ذلك أيضاً ، وصف الله لأولي الألباب " أصحاب القلوب " في أل عمران 191 بقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ) أي ذكر أو تذكر دائم ...
يقول أبو الفرج ابن القيم الجوزي : ( من أحب شيئا ، أكثر ذكره ، و من أجلّ أمرا ، أعظم قدره ، و لا حبيب أحب من الله إلى أهل ولايته ، و لا جليل أجل من الله عند أهل معرفته ، فاذكروا الله ذكر المحبين ، و أجلّوه إجلال العارفين ) ، ورد في "التذكرة" ( ص: 119) ...
بسم الله الرحمن الرحيم : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) [البقرة : 165] صدق الله العظيم ...
يقول الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ) [مريم : 96] ، و "الود" هو التعبير العملي للحب ...
وهو الواقع التطبيقي له بداً من الله وإنتهاءاً بالله ؟؟ !!! ...
يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [المائدة : 54] ...
يقول سلطان العارفين "أبو يزيد البسطامي" في أحد أشعاره :
عجبت لمـن يقول ذكرت ربـي ۩۩۩۩۩۩۩۩۩۩ فهـل أنسى فأذكر من نسيت
شربت كأس الحب كأس بعد كأس ۩۩۩۩۩۩۩۩۩۩ فمـا نفذ الشراب و لا رويت
ومن منا لم يقع في جاهليته في الحب و ذهل في المجالس ولاحظ عشقه وهيامه القاصي والداني ...
َتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت : 43] ...
وأفضل من أجاد في وصف المحبة الربانية هو سيدنا تاج العارفين "أبو القاسم الجنيد " قدس سره ، حين قال وهو يصف عشقه لربه : ( عبد ذاهل عن نفسه متصل بربه ناظر إليه بقلبه ، قد أحرق قلبه الأنوار الإلهية فصفا شربه من كأس ورده ، وأنكشف له الحق من أستار عينه فهو بالله ومع الله ) .
ويروى أن الإمام الجنيد قدس سره ، أنه جاءته امرأة تشكو زوجها في جامع الشونيزي في بغداد ، قائلتاً : يا سيدي إن هذا الرجال يريد أن يتزوج علي ، ولو كان لي أن أكشف عن وجهي لغير المحارم لعلمت يا سيدي أن من كان له زوجة بجمالي لما كان ينبغي له أن يتلفت لغيرها ، وهنا فوجئ الجميع بسقوط الإمام الجنيد قدس سره مغشياً عليه ؟!! .
وعندما عاد له وعيه سئل ماذا أصابك يا سيدي ، فأجاب : ( تراءى لي وكأن الحق تعالى يقول لو كان لي أن أكشف في الدنيا عن وجهي فيراني عبدي بعيني رأسه ، لعلم أن من كان له رب مثلي لا ينبغي أن يلتفت لسواي ) ...
سئل وزير النبوة علي كرم الله وجهه عن الإيمان فقال : ( وهل الإيمان إلا المحبة ) ، وفي رواية سبطه أبو عبد الله الحسين رضي الله عنه : ( وهل الإيمان إلا حب الله) ، و عنه كرم الله وجهه : ( الإيمان في قلب المؤمن محبة الله ) ...
يقول سلطان العارفين "أبو يزيد البسطامي" قدس الله سره العزيز : ( ظاهر التصديق "الإيمان" و باطنه سواء ، فقد اشترك الإيمان والحب في قلب العبد ، فكلما زاد الإيمان ازداد الحب لله ، قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ) [البقرة : 165] ...
وقال وهو الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم : ( ثلاثة من كن فيه ذاق حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، أن يكره أن يعود بالكفر كما يكره أن يقذف بالنار ) ، رواه البخاري في "صحيحة" ، و الكفر هنا هو الذي تصفه الآية بقوله تعالى : (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) [الكهف : 101] ، و الذكر في هذه الآية هو المحبة أي أنهم كانوا محجوبين عن هذا المذاق الوجداني الفريد ، و مصداق ذلك ما ورد في أثر ذو السبطين كرم الله وجهه : ( إن للإيمان مذاق من ذاقه ذاق و من ذاق عرف ومن عرف غرف ) ، وبيان ذلك قوله تعالى : (أوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً ) [الفرقان : 75] و في الأثر: ( زد غباً تزدد حباً ) ورد في كتاب الإحياء للغزالي .
وقد ورد عن سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( ألا أدلكم إلى خير أعمالكم ، وأذكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تنفقوا الذهب و الورق "الفضة" وخير لكم من تلقون عدوكم تقتلونه أو يقتلكم ، ذكر الله ) ، رواه الترمذي و ابن ماجه في "السنن" ،والحاكم في "المستدرك" والطبراني في "دعاء الطبراني" ، وقالا : إسناده متصل ورجاله ثقات ، ورواه البغوي في "شرح السنة" ، وقال : حسن ، و المنذري في "الترغيب و الترهيب" ، و الدمياطي في "المتجر الرابح" ، وقالا : إسناده حسن ، ورواه السيوطي في "الجامع الصغير" ، و الوادعي في "الصحيح المسند" ، وقالا : صحيح ، و صححه الألباني في "صحاحه ...
و هو من البديهي إن ليس بذكر اللسان بل ذكر القلب وهو ذكر ما يستوجب المحبة لله من فضل وإحسان فقد ورد بالأثر : ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) رواه أبو نعيم في "الحلية" .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد مرة فوجد جمع من الصحابة مجتمعين في حلقة ذكر فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما يجمعكم على هذا ، فأجاب أحدهم " ذكر الله وذكر فضله علينا أن سوانا مؤمنين " فقال آلله ! ، جمعكم فقالوا وهل عهدت عنا كذباً يا رسول الله ، فقال لا والله ما قصدت هذا ، ولكن جانيي الآن جبريل ليخبرني أن الله راضِ عنكم فهل أمنتم راضون عنه ) ورد في صدور الرجال الوارثين لمقام النبوة .
وورد في الآثار الصحيح على الشكل التالي :
خرج معاوية على حلقة في المسجد . فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : ( جلسنا نذكر الله . قال : آلله ! ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ! ما أجلسنا إلا ذاك . قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم . وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه . فقال " ما أجلسكم ؟ " قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ، ومن به علينا . قال " آلله ! ما أجلسكم إلا ذاك ؟ " قالوا : والله ! ما أجلسنا إلا ذاك . قال " أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم . ولكنه أتاني جبريل فأخبرني ؛ أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة " ) ، رواه مسلم في "صحيحة" والترمذي و النسائي في "السنن" ، وحكمه : صحيح ...
وقد سئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أعظم العبادات فقال "حب الله" وقال في أحد خطبه : ( أحبوا من أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الأعمال وخيرته من العباد والصالح ) ، رواه ابن كثير في "البداية و النهاية" مرسلاً عن أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ...
ويقول صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني بحب الله ، وأحبوا أهل بيتي بحبي ) ، رواه الترمذي في "سننه " ، والسيوطي في "الجامع الصغير" ، باسناد صحيح ...
ومنه نستنتج أن المحبة لله شقين الشق الأول استزاده إرادية بسبب زيادة المحبة ومن ثم استزاده تلقائية بدافع ذاتي لفرط السعادة والوجد ، لظهور مودة المحبوب لمحبه . قال تعالى : (َاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) [هود : 90] .
نهاية الفصل الثاني من الجزء الأول ...
المفضلات