الجذور التاريخية للأسرة الأموية
ينتسب الأمويون إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وفي عبد مناف يلتقي بنو أمية مع بني هاشم، وكان بنو عبد مناف يتمتعون بمركز الزعامة في مكة، لا يناهضهم فيه أحد من بطون قريش.. وجميع قريش تعرف ذلك وتسلم لهم الرياسة عليها .
أولاً شهادة التاريخ بين الهاشميين والأمويين
كان بنو عبد مناف بن قصي وحدة واحدة في محاولتهم اقتسام السلطة في مكة مع بني عمهم عبد الدار بن قصي، الذي فضله والده على سائر أبنائه، رغم شرفهم عليه، وجعل له الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وكان زعيمهم في هذه المحاولة هو عبد شمس، أبو أمية، إذ كان أس بني عبد مناف، وتفرقت قريش على ذلك بين فريقين، عبد مناف وعبد الدار، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفاراً، قلما يقيم بمكة، وكان مقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسراً[1].. وهكذا كانت السلطة في مكة عبارة عن مراكز نفوذ تقررها الأهمية الاقتصادية، دون أن يكون لأسرة ما أو زعيم ما السيادة الكاملة على غرار ما كان لقصي زعيم قريش الأول[2] .. وكذلك اشترك بنو عبد مناف معاً في جهودهم لتنظيم التجارة بين مكة وما حولها[3]، وهكذا كانوا يداً واحدة تتحرك في تفاهم وتآلف، فلما ماتوا رثاهم الشعراء معاً، دون تفريق بينهم تماماً كما كانوا يمتدحونهم معاً[4]، وهكذا تقتضي طبيعة الحياة العربية في الجاهلية أن يتناصر أبناء الأب الواحد، وأن تجتمع كلمتهم ما وجدوا إلى ذلك سبيلا[5]، وأما الروايات التي تزعم وجود عداء مستحكم بين بني هاشم وبني عبد شمس وأميه قبل الإسلام، فهي واهية الأسانيد، لا تثبت، فهي تروي أن هاشماً وعبد شمس ولدا ملتصقين ففصل بينهما بالسيف، فكان بين أبنائهما الدماء لأجل ذلك[6]، فهذه رواية لقيطة ليس لها راوي، تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال، ويكذبها ما رواه ابن اسحاق من أن عبد شمس كان أسن بني عبد مناف[7] والروايات التي تروي أن منافرات حدثت بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وبين عبد المطلب بن هاشم وحرب بن أمية[8]، وكلتا الروايتين ترويان عن هشام الكلبي وهو رواية شيعي كذاب يرويهما كلتهما عن رجال مجهولين لا يعرف أسماءهم[9]، إذ إن هذه الروايات كما يبدو واضحاً من سندها المعتل ومتنها المصطنع كانت صدى لما حدث فيما بعد من صراع بين بني أمية وبني هاشم حاول الرواة أن يجعلوا له سنداً تاريخياً ثابتاً، وتظل حقيقة العلاقة الطيبة بين الفريقين لا شك فيها[10] ولذلك يقول ابن خلدون : كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدة والشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش: وكان فخذاهم بنو أمية وبنو هاشم هما جميعاً ينتمون لعبد مناف، وينتسبون إليه، وقريش تعرف ذلك وتسأل لهم الرياسة عليهم، إلا أن بني أمية كانوا أكثر عدداً من بني هاشم وأوفر رجالاً والعزة إنما هي بالكثرة، قال الشاعر: وإنما العزة للكاثر[11] .. ولعل ما يشير إليه ابن خلدون من تفوق بني أمية قد اتضح قبيل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات عبد المطلب بن هاشم الذي ورث شرف أبيه وبرز نجم أبي سفيان بن حرب فذلك ما يبدو من هذا الوصف الدقيق لطبيعة العلاقة بين بين بني أمية وبني هاشم على لسان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما سئل: أيكم كان أشرف أنتم أو بنو هاشم؟ فأجاب: كنا أكثر أشرافاً وكانوا هم أشرف، وكان فيهم عبد المطلب ولم يكن فينا مثله، فلما صرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فيهم واحد كواحدنا، فلم يكن إلا كقرار العين حتى قالوا: منا نبي، فجاء نبي لم يسمع الأولون والآخرون بمثله، محمد صلى الله عليه وسلم، فمن يدرك هذه الفضيلة وهذا الشرف[12]؟ . إن كل ذلك لا ينفي احتمال وجود نوع من التنافس بين الجانبين قبل الإسلام، في ضوء ما نعرف من طبيعة الحياة العربية في مكة قبل الإسلام، ولكنه تنافس يحدث بين الإخوة أحياناً، وبين أبناء الأب الواحد، غير أنه لم يتطور ليصبح تربصاً وعداء كما يزعم المتزيدون[13]، ولدينا من شواهد التاريخ ما يدل على قوة العلاقة بين بني هاشم وبني أمية، فقد كان عبد المطلب بن هاشم ـ زعيم الهاشميين في عصره ـ صديقاً لحرب بن أمية ـ زعيم الأمويين ـ كما كان العباس بن عبد المطلب ابن هاشم صديقاً حميماً لأبي سفيان بن حرب بن أمية، وفي قصة إسلام أبي سفيان عند فتح مكة، ودور العباس فيها أكبر دليل على ذلك، كما سنبينها في الصفحات القادمة بإذن الله، والغريب أن المقريزي الذي ألف كتاباً خاصاً عن علاقات الهاشميين والأمويين وجعل محوره النزاع والتخاصم ، يعترف بالصداقة الوطيدة التي كانت بين العباس وأبي سفيان[14]، فإذا كانت الصداقة الوطيدة قائمة، ووطيدة بين زعماء البيتين ـ الأموي والهاشمي ـ وهما ابناء أب واحد، وهو عبد مناف بن قصي، فإن الحدس بتأصيل النزاع بينهما بعد الإسلام والرجوع به إلى ما قبل الإسلام لا سند له من تاريخ[15] .
إن الكتاب المنسوب للمقريزي "النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم، لا يمكن أن أن يتصور عاقل أن يد المقريزي قد خطت حرفاً واحداً من هذا الكتاب. لأن المقريزي ـ لا يمكن أن ينزل إلى هذا الدرك من إلغاء العقل، والجهل بالأحكام، فمؤلف هذا الكتاب ألفه صاحبه في عصر الإنحدار الطائفي، والتهافت العاطفي، وتخلى فيه عن صفة المؤرخ، وبعد عن سجية العلماء، حيث جعل هذا الكتاب متنفساً عن بغضاء مكتومة، وحقد دفين، جعلها أساساً لحكمه وشعاراً لكتابه[16]، ويرى الدكتور إبراهيم شعوط أن الكتاب منسوب للمقريزي[17]، والذي يهمنا أن ما قرّره صاحب الكتاب من أن العداوة مستحكمة بين بني أمية وهاشم وأنها قديمة لا يثبت هذا الإدعاء أمام البحث العلمي النزيه، إن الذين ينظرون إلى تاريخ بني أمية من خلال موقف أبي سفيان من الإسلام في مكة ومن خلال ما دار بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من حروب يبنون على ذلك كما فعل العقاد أوهاماً من صراع تاريخي قبل الإسلام وبعده بين بني هاشم وبني أمية وتلك أوهام ليس لها من التاريخ إلا رواية ملفقة أو أحداثاً عارضة لا تمثل قط صراعاً بين هذين الفرعين الكريمين من بني عبد مناف وهما ذروة الشرف في قريش[18]، والذي يظهره البحث العلمي النزيه وبعد ترك الروايات والأساطير الساقطة يتضح أن العلاقة بين البطنين كانت طبيعية مثلها مثل العلاقة بين باقي بطون قريش.
المفضلات