عندما كنا اطفالاً صغارا كنا نخرج فرحين الي ساحة الميدان بمنطقتي ، فنتغني بالوطن والثورة والحرية ببراءة مطلقة ، وكانت فرحتنا تمتزج مع فرح كل سكان طرابلس عندما يلقي ( القائد ) و ( الاب ) ـ كما كنا نسميه ـ خطابا يجعلنا نتهافت لرؤيته وسماعه .
وكبرنا.. في دولة معمر ، فأصبحنا شباب ثورته وأصبحنا أبناء الشعب المسلح عندما تدربنا علي حمل السلاح في مرحلة الدراسة الثانوية ، بينما أصبحت مدارسنا ثكنات عسكرية نتلقَّى فيها التدريب على الكثير من أنواع السلاح ( كلاشنكوف ـ غداره ـ مسدس ـ راجمات الصواريخ .. إلخ ) ولنجد أنفسنا من طلائع الشعب المسلح المشارِكة في الاحتفالات والاستعراضات العسكرية .
كان التفاؤل والحماس يملآن قلوبنا ، فنحن لا ننتظر أحدا ليدافع عنا ، واعتقدنا أننا سنعيش حياة حافلة كلها عزة وكرامة ومساواة ، وكم شكرنا الله و ( القائد ) على هذه النعمه .. حتى انتقلنا الى المرحله الجامعيه .
وفي الجامعة بدأنا ندرك الاشياء ونفهم معانيها .. فحدثت مواقف ، وتغيرت مفاهيم ، واتضحت رؤى ، فرأينا عمليات الضرب والقتل والإغتيالات وشنق الطلبة والمواطنين المعلن والمصور مع صنوف واشكال من الإرهاب الذي لا يخطر على بال .
ومع توالي السنوات أصبحنا امهات .. ( وهنا أتحدث عن جيلى ) من بنات مدينتى طرابلس :
كانت هذه الأحداث قد أخرستنا حتى جاء يوم 17 فبراير .... يوم طالب أبناؤنا بحرياتهم وإحلال الديمقرطية في البلاد ، وفي ذلك اليوم المشرق الدامي اختلط الفرح بأعمق درجات الحزن عندما سقط المئات من أبنائنا برصاص ( القائد الأب ) وانتشر الحزن في كل بيت في وطنى الحبيب ، وبدلا من أن نهتف للتغيير أصبحنا لانملك الا البكاء والترحم على أرواح الشهداء ، والدعاء الى الله بأن يلهمنا جميل الصبر والسلوان .
لقد بكينا على شهدائنا ، مثلما بكينا على سنوات طويلة من الوهم ..
: هل هذا هو الشعب المسلح ؟ ... هل هذه هي الأسلحه التى كنا نتفرج عليها في إستعراضات سبتمبر العسكريه ؟ ... هل هذه هي الكتائب المسلحة التي كنا نزغرد لها في استعراضاتها المهيبة ؟
كيف يمكن لهذه الكتائب التي طالما صفقنا لها أن توجه طائراتها وصواريخها ومدافعها وبنادقها إلى صدر الشعب ؟؟؟ .. كيف تصوب نارها على رؤوس أبنائنا بيديها وبأيدي مرتزقة العصر ؟ .
فهل يُعقل أن يجابَه المتظاهرون السلميون المطالبون بالحرية والديمقراطية بهذه الترسانة الرهيبة من الأسلحة ؟
نحن لم نكن نصفق لهذه الكتائب إلا لأنهم أوهموننا أنها موجهة لكيان إسرائيل وبأنها وسيلة لتحرير فلسطين الحبيبة ، فلا أحد كان يصدق أنها ستقتل شعبنا أو أنها ستسلَّم لأجانب مأجورين ليقتلوا بها أبناء الشعب دون شفقة أو رحمة وبمقابل مادي عن كل روح يتم إزهاقها من أرواح أبنائنا الليبيين المغدور بهم بأمر هذا ( القائد ) كما كنا نطلق عليه جهلا منا .
اليوم ، يحاصرني أولادي بأسئلتهم التي لا اجد لها إجابات إلا قولي ( حسبي الله ونعم الوكيل ) :
هل هذا الذي يقتل شعبه بكل وحشية هو ( قائدك ) ؟ .
لماذا يتحدث ابناؤه في مؤتمراتهم الصحفية اللغة الإنجليزية بطلاقة وأنت لم يدرسوك حرفا منها في المدارس أو الجامعة ؟ .
ألم يقولوا لكم لا تتعلموا اللغة الإنجليزية لأنها تضر بعقلكم وإيمانكم ؟ ... فكيف لم يطبَّق هذا المنع على أبناء ( قائدك ) ؟ .
ولم يكتف أبنائي بهذا ، بل فاجئوني بأسماء أساتذه جامعيين درسوني في الجامعة تتواجد أسماؤهم في قوائم القتلة والإرهابيين المطلوبين للعدالة !! .
ولا أدري هل فرحت أو حزنت عندما قال لي أبنائي : الحمد لله أننا لم نُخلق في ذلك الزمن ولم نر تلك الوجوه ولم نَصدم كصدمتك يا أمى . فقلت لهم من حيرتي : ربما كان ذلك ( القائد ) هو الشيطان نفسه الذي يستطيع تغيير صورته متى شاء وكيفما شاء .
" أم ليبية "
المفضلات