هزيمة 1967.. الوعي التقليدي ونقد المجتمع
- لقد كشفت الانتصارات التي حققتها إسرائيل على العرب منذ قيامها، والتفسخ العربي، أننا نحن العرب خسرنا الحروب التي وقعت، لا أن العصابات الصهيونية هي التي كسبتها. إن تأخر العرب، كما يقول المفكر العربي ياسين الحافظ، هو الذي ساعد على قيام إسرائيل، وعلى حمايتها، ومن ثم توسعها. صحيح أن الاستعمار ساعد على قيام إسرائيل، ولكن أليس الضعف العربي هو الذي استقدم الاستعمار ومكّنه من تحقيق أطماعه ومؤامراته؟
وجاءت هزيمة حزيران 1967، تلك الهزيمة المذلة والشاملة، لتكشف حقائق واقعية، وهي أن هدف العدوان كان ضرب المشروع القومي النهضوي الذي كان يحمله عبد الناصر، وأن الهزيمة كانت هزيمة مجتمع يعاني تأخراً تاريخياً في وعيه الأيديولوجي، كما يعاني من تجزئته الكيانية البنيانية ومن تناثره.
ولقد كشف ياسين الحافظ النقاب عن الوعي الزائف في هزيمة 1967، فرأى فيها أنها ليست مجرد هزيمة عسكرية، أو هزيمة طبقية اجتماعية، أو أنه يمكن حصر أسبابها في التخلف العلمي والتكنولوجي أو عدم امتلاك ناحية العلم والتقنية الحديثة. إن كل ذلك ليس في آخر التحليل سوى نتيجة من نتائج التخلف العربي ومظهر من مظاهره، فعلى أنقاض التخلف، المتمثل بالمجتمع التقليدي، يأخذ التصنيع مدى جديدا ومعنى جديدا، ديمقراطيا وثوريا، وتصبح الصناعة رمزا للإنسان بوصفه سيد الطبيعة، وتكريسا لانعتاقه من أطر المجتمع التقليدي الخانقة. فالتكنولوجيا إذ تفتقد جذرها الثقافي الأيديولوجي وتربتها الإنسانية، تبقى مجرد قشرة لاصقة على سطح المجتمع.. مجرد رقعة جديدة على ثوب خلق.
ويكشف الحافظ عن دور البرجوازية العربية الصغيرة في هزيمة 1967، ويرى أن هذه البرجوازية العربية قد شكلت ملامح الاستراتيجية العربية، ووسمتها بسماتها، المتمثلة بالعفوية وضيق الأفق والتقلب والانتقال بخفة من مواقف الإفراط بالثورة الرومانسية إلى التراجع والاستسلام بدعوى الواقعية. فبعد كارثة 1948، وتساقط نظم الحكم العربية التقليدية، جاءت البرجوازية الصغيرة والبيروقراطية العسكرية إلى الحكم، معتبرة أن معركة الشعب العربي ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، المتمثل في إسرائيل، مجرد معركة عسكرية، مُعَسكرةً الحياة السياسية العربية عبر تضخيمها الجيوش كمّاً، ومفاقمة الامتيازات المادية والمعنوية للبيروقراطية العسكرية، فساهم التضخم العسكري والتبذير والامتيازات إلى إحداث نزيف اقتصادي كان سببا من أسباب شل التطور الاقتصادي العربي، الذي لم يؤدِّ بالمحصلة الى خلق قوة محاربة وحديثة عصرية. ذلك أن شكل التطور في البنى الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية في المجتمعات التقليدية، وجمود هذه البنى، لا بد أن ينعكس على صعيد البناء العسكري نفسه، لأن الحرب الحديثة، باعتبارها اختبارا كليا للقوى المادية والمعنوية لكل بلد، هي حرب مجتمع ضد مجتمع، لا حرب جيش ضد جيش إلا كمظهر مباشر وخارجي ومكثف للصراع. فالوعي التقليدوي، كما يقول الحافظ، لم يفشل فقط في مواجهة التحدي الإسرائيلي، بل فعل ما هو أسوأ من ذلك، سواء وعى أو لم يعِ، لأنه:.
- أولا: سوّغَ عسكرةَ البنية السياسية العربية ودفعَ اليها، فأعيد وضع المجتمع العربي في قالب استبدادي شرقي.
- ثانيا: بررَ وسهّلَ هدر النصيب الأكبر من الفائض الاقتصادي.
وجاءت حرب تشرين 1973، لتكشف حقيقة ذلك، حين ولدت خط الاستسلام والتصالح مع العدو القومي، ومهدت لخروج مصر من ساحة الصراع العربي الصهيوني، وقوضت كل أسس التضامن العربي ضد الإمبرالية والصهيونية، ومهدت كذلك للانتقال من الحقبة الناصرية الى الحقبة الشخبوطية ، وسيطرة البداوة النفطية سياسيا وايديولوجيا وثقافيا على الحياة العربية.
وتأسيسا على ما تقدم، رأى ياسين الحافظ أن النخب السياسية العربية خصوصا، والمثقفة عموما، عليها أن تعرف أنها هي المهزومة، وأن وعيها التقليدي المفوت هو المهزوم. وأن نقطة البداية لتجاوز أوضاع الهزيمة هي:
- أولا : قلب الإستراتيجية العربية قلباً كلياً، وبالتالي اعتبار تحديث وعقلنة وكوننة وعي الإنتلجنسيا العربية مقدمة لا بد منها لتعديل ميزان القوى لصالح الأمة العربية.
- ثانيا: تعميق وتجذير النقد لدفعه من نقد الأنظمة (أي السطح السياسي) إلى نقد المجتمع (العمارة).
من هنا نجد أن تحليل هزيمة حزيران، ينبغي أن يكون نقطة انطلاق في وعي التأخر التاريخي، وضرورة الجمع والتركيب بين التحليل الطبقي والتحليل التاريخي، ففي تلك الهزيمة لم يكن المهزوم طبقة، بل المجتمع برمته. صحيح أن الطبقة السياسية العربية والإنتلجنسيا العربية عموما هما المسؤولتان المباشرتان عن الهزيمة، إلا أن المجتمع العربي، وبالتحديد عمارة هذه المجتمع، هو أيضا مسؤول ومهزوم، كل واحد منا مهزوم، وكل واحد منا مسؤول.
فالتجربة العربية تؤكد أنه في العام 1948 انهزمت طبقة يمكننا أن ندعوها: شبه البرجوازية، أو شبه الإقطاعية. اما الهزيمة في حزيران 1967 فهي أطول وأذلّ. في حزيران هُزمت طبقة برجوازية صغيرة ريفية، تقليدية جديدة، وهي التي ثارت على الأولى وأسقطتها، وفي الحالتين، وعبر هزيمتَي هاتين الطبقتين أو معهما، بقي المجتمع العربي هو المهزوم.
إن مقولة التأخر هي التي تفسر تغيير الطبقة القائدة وبقاء الهزيمة، ذلك أنه في البحث عن أسباب الهزيمة وسبل تجاوزها، علينا ألاّ نقتصر على التحديد الطبقي، بل إن التحديد التاريخي، أي كيفية تعامل مجتمع ما مع المحيط الطبيعي أولا، ومع المحيط البشري الكوني ثانيا، هو الذي يفسر ذلك. فبقدر ما يفعل مجتمع بالطبيعة، فإنه يطورها ويتطور معها، وبالتالي يتقدم تاريخيا.. وانفتاح مجتمع ما على الكوني هو تعبير عن مدى تقدمه التاريخي من جهة، وحثه لهذا التقدم من جهة ثانية.
إن التحديد الاجتماعي الطبقي، هو تحديد سطحي للواقع، وأما التحديد الأيديولوجي-السياسي، الثقافي، فيكشف عن البعد التاريخي للواقع، والوعي الطبقي بالمعنى الحقيقي للكلمة هو وعي عصري وحديث أولا، كوني وتاريخي ثانيا، وإذا كان التثقيف الماركسي ضروريا لبناء وعي طبقي في مجتمع متقدم، فإن تمثل الليبرالية وتجاوزها شرط أولي في المجتمعات المتأخرة.
إن أمة تعاني مشكلة تأخر ومشكلة اضطهاد أجنبي يمكن أن تخاطَب من موقع قومي فقط، ولكن مقولة الطبقية حين تندرج في المقولة الأساسية الأوسع ومقولة الكلية تغدو ضرورية من أجل التقاط الربط بين القومي والطبقي والتقاط كلية ظاهرة التبعية. وفي إطار مقولة الكلية هذه وفي حالة أمة متأخرة وتعاني شقاء قوميا، يخدم التحليل الطبقي (وليس الطبقاوي) كوسيلة لإنارة المسألة القومية وترشيد اتجاهها.
المفضلات