تطبيق قواعد فقه الواقع على عملية السلام والمفاوضات المباشرة
الحل هو المقاومة المسلحة بشرط
يتحدث الكثيرون ويكتبون حول أسباب فشل عملية السلام، وأسوء ما قيل في أسباب الفشل، ذلك القول الذي يحصرها فقط في السياسة التي يتبعها الرئيس الفلسطيني محمود عباس والسلطة الفلسطينية من غير ذكر للتعنت الاسرائيلي الفاضح الذي يعتبر السبب الأول والرئيس، حيث يقولون: إنه كان يجب على عباس عدم التخلي الكامل عن المقاومة المسلحة لأنها تظل ورقة تفاوضية قوية في أيديهم، أي كان على المفاوض الفلسطيني أن يمسك بغصن الزيتون باليمنى والبندقية باليسرى. وأصحاب هذا الرأي الجديد على فئتين، فئة كانت لا تؤمن أصلا بالعملية السلمية بل كانت تعتبرها خيانة للأمانة وللأمة، فتراجعت خطوة عن خندق المقاومة والتحرير إلى خندق العملية السلمية، والفئة الثانية هي فئة كانت تؤمن أصلا بنجاعة الحل السلمي بلا أدنى مقاومة، ولأسباب كثيرة على رأسها التعنت الاسرائيلي والتنازلات الفلسطينية النسبية، أدى ذلك بهم الى التراجع خطوة عن مبدأ الحل السلمي المجرد من المقاومة المسلحة الى القول بمزج السلام بالمقاومة. والجميع من هؤلاء يخشون أن سياسة عباس الرافضة لأي نوع من المقاومة المسلحة سيزيد من إفلاس السلطة من أية قوة أو ورقة ضغط لدعم الموقف التفاوضي.
كلا الفئتان تتجاهلان أن حالة مزج السلام بالمقاومة حتى لو كانت مقاومة حقيقية لا عبثية، فإنها سوف تزيد من تعاطف وتأييد الغرب لإسرائيل. ولكن يقولون أيضا بأن إفلاس السلطة من أي قوة تفاوضية سيؤدي الى قبول الدخول في المفاوضات المباشرة حتى بدون تحديد مرجعية مسبقة أو وقف الاستيطان، وهذه حالة من الضعف ستحرمنا من كثير من حقوقنا، وستؤدي لو حصلت الى ميلاد دولة فلسطينية على مقاسات إسرائيلية غير قابلة للحياة والاستمرار. وهذه وجهة نظر محترمة ولكن على الرغم من أن هذا الكلام لا زال محتملا وليس أكيدا، إلا أنه يتوجب توضيح نقاط هامة للغاية حتى في حال كان هذا الكلام صحيحا وحقيقيا.
يجب الانتباه جيدا لقضية غفل عنها معظمنا، هي أن أكبر فائدة أو إيجابية للعملية السلمية هي درء المفاسد ابتداء، لا جلب المصالح. أي أن العرب بالعملية السلمية قد أوقفوا حالة التدهور العربي المستمر المتمثل بفقدان الأرض تلو الأرض، ومزيد من الضعف والهوان والانشقاق سنة بعد أخرى التي نزلت بنا تحت شعار "ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة". فهذه الايجابية الكبرى والأولى للعملية السلمية المندرجة تحت القاعدة الاصولية "درء المفاسد أولى من جلب المصالح" هي للأسف غير منظورة وغير ملموسة الا للمحترفين. وهذا لا يعني أن العملية السلمية لن نحصل من خلالها على أية مصلحة راجحة، بل لقد حققنا من خلالها العديد من المصالح وعلى رأسها إعادة الأراضي المحتلة من مصر والأردن لأصحابها على أقل تقدير، ثم الانسحاب من القطاع بالكامل وأجزاء من الضفة الغربية، وغيره مما يبشر بقيام دولة فلسطينية مرتقبة والتي كان لا يمكن مجرد تخيلها فضلا عن الحديث عنها.
ولكن البعض للأسف قد تغافل عن هذه الحسنة الكبرى لعملية السلام التي بها تم درء المفاسد أو درء أكثرها وأكبرها، وفي نفس الوقت جعلوا يطالبون بتحصيل المصالح كلها كاملة غير منقوصة أو أكثرها. متناسيا أن العملية السلمية لا يجوز أن نقبل بها من الأساس لو كنا في مرحلة القوة والمنعة من كل وجه أو من أكثر الوجوه. ونسي هؤلاء أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ونسوا كذلك أن من الورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما. اي أن العملية السلمية ستضطر الأمة من خلالها للترجيح بين المصالح، وهذا الأمر سيؤدي بنا الى فقدان بعض تلك المصالح من حدود أو مياه أو غيره. وسنضطر كذلك من خلالها للترجيح بين المفاسد أو الشرور وإن حصل أدناهما، كاستمرار القتل وهدم المنازل وإعادة احتلال الارض وغير ذلك اثناء العملية التفاوضية، وتحصيل ذلك كله مبني على الصبر وطول النفس، وعدم تعجل قطف الثمر.
لكن مزج مفاوضات السلام بشكل من أشكال المقاومة الجادة هو أمر مجدي ومفيد بشرط أن تلحق ضررا حقيقيا (سواء مادي أو معنوي) بإسرائيل وتكون ورقة ضغط تفاوضية بيد السلطة الفلسطينية لا عليها، وهذا غير ممكن إلا بأن تكون هذه المقاومة مدعومة أو متغاضى عنها غربيا، كما يجب أن تكون أهدافها بعيدة عن المدنيين والأطفال والنساء وأي تجمع مدني، ويفضل أن تهدف لإلحاق خسائر مادية ومعنوية، وإلحاق الإزعاج بإسرائيل، وإلا فإن إسرائيل تتقن كعادتها استغلال ضحاياها من المدنيين لكسب مزيد من التعاطف الغربي وقلب الطاولة على رأس المفاوض الفلسطيني والعربي، ولنتذكر كيف استثمر اليهود المحرقة النازية.
أما ان استطعنا من خلال هذه التوليفة العجيبة بين المفاوضات السلمية والمقاومة الحقيقية، أن ندرأ المفاسد أو الجزء الأكبر منها، وأن نحصل على نتائج إيجابية ولو فاتنا أدناها، وفي نفس الوقت أن تكون هذه المقاومة متغاضى عنها غربيا، وتؤدي إلى إحراج اسرائيل معنويا وماديا، فإن أصحاب هذه الفكرة على حق وعلى المفاوض الفلسطيني والعربي دعم هذه الاتجاه والعمل به. فبدون هذ الشرط فإن هذه المقاومة الحقيقية ستكون ذات فائدة لإسرائيل أكبر من ضررها الحقيقي عليهم، وهذا يؤدي بنا إلى حبل المشنقة من جديد ، وهذا ربما حصل فعلا في الماضي، حيث يقال بأن عرفات كان يتظاهر بقمع عمليات حماس، ويقوم في ذات الوقت بالتنسيق معهم سرا ليقوموا بعمليات مقاومة حقيقية للضغط على إسرائيل، وكانت هذه ورقة تفاوضية بيد عرفات بأنه لا يستطيع إيقاف هذه العمليات وعلى إسرائيل الانسحاب الكامل إذا أرادت توقف العمليات ضدهم، ولكنه في ذاك الوقت لم يكن قادرا على استجلاب تعاطف أو تغاضي غربي لتلك لمقاومة، ولذلك فشلت.
إن ما وصلنا إليه الآن هو أفضل فرصة لإظهار شدة التعنت والغش الإسرائيلي بأعلى مراحله أمام العالم الغربي، وتوجد الآن إمكانية يجب إحسان استغلالها من أجل بدء خلق تعاطف غربي رسمي أو على الأقل شعبي مع الموقف الفلسطيني وتبرير إيجاد مقاومة بشكل جديد بحيث تكون معترفا بها من أجل تحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني، لكن يجب أن ندرك أن موقف السلطة الفلسطينية هذا الحالي الذي ينتقدونه هو الذي خلق هذه الفرصة لأول مرة في التاريخ، ولا أزعم أنه لم تكن توجد طريقة أخرى غير هذه للوصول إلى هذه الفرصة، ولكن هل كان هناك أحد في الماضي أو حتى اليوم لديه طريقة أخرى؟
الآن نستطيع لأول مرة أن نقول للغرب بأننا نبذنا كل أشكال العنف وقبلنا بالمفاوضات المباشرة والسلام ولكن إسرائيل هي التي ترفض، وهي التي تقضم حقوقنا وأرضنا حتى دون أن يكون لها حجة وجود مقاومة تزعجها، وهذا ربما هو أفضل خيار بقي في أيدينا، وسيجعل الله بعد عسر يسرا، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
والله أعلم
المفضلات