نزار قباني.. شاعر الياسمين
- لم تكتمل مهمة انتشال الشعر العربي من عصور الانحطاط التي بدأها أحمد شوقي و البارودي إلا في مرحلة تالية من القرن العشرين ومن عباءة شاب دمشقي صغير قالت له سمراء ذات يوم بعضا من أسرارها فقرر أن يبوح بها للعالم فأتى ديون ''قالت لي السمراء'' سنة 1944م ليحيك بعده خيوط التحول المقصود من الشعر العامودي إلى التفعيلة ولكن دون أن يتخلى عن أصالة الشعر كما فعل زملاؤه من شعراء الحداثة في العراق مثل البياتي والسياب بعد ديوانه بسنوات قليلة، وأتى نزار مندفعاً بقصيدته الأولى المتحررة عن بحور الشعر ''إندفاع'' في ديوانه الأول ''قالت لي السمراء''، والتي تكاد من موسيقاه النابضة، تغنّي نفسها مع القارئ وبكل انسياب ليعلن وبكل ما أوتيَ من شعر ثورته على التقاليد والتاريخ والقمع.
لم يتفق النقّاد بعد على هوية هذا المطل على عالم الشعر العربي الحديث، وكان نزار قباني خارج نطاق كل ما تعلق بهذه الإشكالية .
إلا أن صاحب'' طفولة نهد'' و'' الرسم بالكلمات''، وبرأي الكثيرين كان الأكثر تأثيراً وشعبية بين شعراء جيله المعاصرين، ومازالت كلماته العاشقة والمتوحشة والمجنونة تسافر بين النجوم وبين البشر.
''بين ماء الورد و حد ''.
نزار قباني المولود في دمشق الشام قبل 85 عاماً، غيّر شكل ومضمون القصيدة العربية وتحرر بوقتٍ قصير عن كل ما كتب قبله من شعر لتشهد المرأة و''جسدها الموسوعي'' أسطورةِ عشقٍ دونها الزمان على صفحات الكُتب. عاش نزار طيلة حياته مدافعاً عن الحب والعشق والوطن تقلب بين الكتابة بماء الورد والكتابة بالسكين، فلا شك أن نزار الذي بدأ حياته عاشقاً حتى الصميم، ونزار الذي أدخل ''فستان التفتا'' و''لوليتا'' وقبلهما ''السمفونية'' إلى مفردات الشعر العربي الفصيح، فاجئ العالم بأسره عندما أطلق من مفكرته الدمشقية ''منشورات فدائية على جدران اسرائيل'' في أعماله السياسية الصادرة عن دار نزار قباني للنشر عام 1974م وضع العرب خلالها بمواجهة قاسية مع الواقع المرير الذي كانت تعانيه الجماهير نتيجة ''نكسة حزيران'' عام 1967م والتي استفاق نزار بعدها باكيّاً مهزوز الفكر والوجدان صارخاً: ''ياوطني الحزين.
حولتني بلحظةٍ.
من شاعرٍ يكتب الحب والحنين.
لشاعرٍ يكتب بالسكين''.
كانت هذه الأبيات من قصيدة ''هوامش على دفتر النكسة'' والتي بها مزقت سكين نزار أحشاء كل عربي قرأها نقطة التحول التاريخي في أبيات نزار قباني وحتى وفاته، بعدها استطاع أن يوفق مابين الحب والحرب ومابين المرأة والبندقية.
أثبت نزار بعد حزيران أنه لم يكتب يوماً الشعر باختياره بل أنه ولد شاعراً ولا يستطيع إلا أن يكون شاعراً! لم يعاكس أو يجادل أو ينافق كان صريحاً واضحاً ومباشراً كعادته في الغزل وقال بجرأته المعهوده:.
''أنعي لكمْ .. أنعي لكمْ.
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمهْ''.
ولم ينسى نزار''الحب'' صديقه الأزلي، حتى بين أشد القصائد عنفاً وانهزاماً، فختم نزار سياسياته بـ''ملاحظات في زمن الحب والحرب'' مؤكداً على أن الحب لا يموت بفعل الهزائم وجراء الحروب قائلاً:.
''أحبك..
تحت الغبار، وتحت الدمارٍ وتحت الخرائب''.
''معارك القصيدة''.
استمر نزار الذي اكتسب شعبيّة عربية واسعة سواء من تربعه على إمارة الشعر الغنائي لأكثر من أربعين عام، أو من خلال قصائده الثورية التي خاض لأجلها العديد من المعارك والتي كانت أشدها انتصاره لقصيدة ''خبز وحشيش وقمر'' والتي ألّبت عليه ساعة نشرها عام 1956م رجال الدين الذين عرضوا قضيتها في البرلمان السوري -بحادثة سابقة لعهدها -مطالبين بفصله من السلك الدبلوماسي!.
بقي نزار في السلك الدبلوماسي وشغل عدداً من المناصب المرموقةِ في كلٍ من القاهرة وأنقرة ولندن ومدريد وبكين وبيروت حتى استقال بمحض إرادته في عام 1966م مودعاً وزارة الخارجية فاتحاً ذراعاه لملاقاة الشعر ناسكاً ومتعبداً في محرابهِ، وبقيت قصيدته التحوليّة تطل لليوم على الشرق بمطلعها:.
''عندما يولد في الشرق القمر.
فالسطوح البيض تغفو.
فوق أكداس الزهر''.
''نهر الأحزان''.
لم تنقطع الأحزان يوماً عن حياة الشاعر الراحل، فمن وفاة شقيقته وصال وهي بريعان الشباب لوفاة والده توفيق القباني ومن ثم وفاة أمه ''أم المعتز'' التي كان عندما ضجر من كل النساء في اسبانيا بعث إليها:.
''أنا وحدي...
...
ولم أعثر.
على امرأة تمشط شعري الأشقر.
وتحمل في حقيبتها إلي عرائس السكّر.
وتكسوني إذا أعرى، وتنشلني إذا أعثرْ''.
كان لأمه فائزة القباني وبيته الدمشقي الواقع في حي ''مئذنة الشحم'' حيث ولد وترعرع سحراً خرافيّاً أثر على اتجاهاته الأدبية وجعل من طفولته المعجونةِ بالورد والفل والنارنج نقطة التحول الأولى في حياته وشِعره ومصير الشعر الحديث بالضرورة.
بالعودة إلى نهر الأحزان الذي ما كان يفارق القباني فترةً حتى يعاود الجريان مرةً أخرى ليخطف من أمام عينيه عزيزاً، تاركاً إياه فريسة للحزن والألم والانكسار، فبعد وفاة ''أم المعتز'' توفي ''الأمير الدمشقي توفيق نزار قباني''، بمرض القلب وهو يدرس الطب في جامعـة القاهرة، وما هي إلا سنوات قليلة حتى وقع تفجير السفارة العراقية في بيروت، والذي توفيت فيه زوجته الثانية بلقيس الراوي، حدث ذلك في 15/12/1981 ، كانت بلقيس بالنسبة لنزار حبه الأبدي الذي نقله من ضفاف الأعظمية لبيروت، ظناً منه أن بيروت مصدر إلهامه لن تخذله أبداً! أصدر نزار ديوان شعرٍ كاملٍ رثى به بلقيس، حمَّل نزار بـ''قصيدة بلقيس'' العرب ذنب وفاتها واسماها الشهيدة، شكر العرب على قتلهم لها وبكى حتى آخر عمره عليها، أنجب من بلقيس زينب وعمر، وأنجب من زوجته الأولى توفيق وهدباء.
'' كلمات الغضب''.
في العام 1983م أصدر نزار كلماته النثرية الغاضبة في جزئين تحت عنوان ''والكلمات تعرف الغضب'' مُظهراً تميزاً وقدرةً عالية على التفنن في كتابة النص الأدبي النثري، مع العلم أن كلمات نزار الغاضبة كانت تُظهر تارةً وتُبطن أخرى الحس الوطني العميق ونزار السياسي المختبي في ثنايا السطور، أثبت أنه كان يرتشف الشعر من كؤوس العشق والأنثى ويرتوي من ماء السياسة! ولعل الدليل الأكبر على ذلك هو إصداره لثلالثية أطفال الحجارة بعد انتفاضة 1987م بعامٍ واحد سائلاً أطفال غزة:.
''عَلِّمُونا ..، كيف الحجارة تغدو، بين أيدي الأطفالِ، ماساً ثمينا...''،.
وقصيدته المشهورة ''سميتك الجنوب'' التي مجد فيها المقاومة الصامدة في جنوب لبنان وأعطى لها شرعية النضال وألبسها عباءة الحسين.
''دمشق وبيروت''.
استقر نزار بعد بيروت في بريطانيا، ولم يكشف عن سبب وجيه في ابتعاده عن دمشق التي وثّق حضورها التاريخي المميز بمعظم قصائده. دمشق التي قال فيها: ''لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي. ولا أستطيع أن أنطق اسمها دون أن يكتظ فمي بعصير المشمش والرمان والتوت والسفرجل.'' حكاية نزار مع دمشق تجاوزت علاقة الإنسان بالمكان لتُنافس في تميزها علاقة الطفل بإمه ويؤكد نزار على تفرد هذه العلاقة قائلاً: ''كل أطفال العالم، يقطعون حبل مشيمتهم عندما يولدون. إلا أنا.. فإن حبل مشيمتي لم يزل مشدوداً إلى رحم دمشق''، وفي قمة الحب الذي وصل حدود النرجسيّة وفي بداية تسعينيات القرن الماضي، نسب نزار قباني دمشق إليه مصدراً ديوانه: ''دمشق نزار قباني'' والذي جمع بين صفحاته بالأساس دمشق في شعر نزار قباني وقدم له: '' كتب الله أن تكوني دمشقاً، بك يبدا وينتهي التكوينُ''،
كانت حكاية نزار مع دمشق قصة حبٍ مستحيلة، قصة حبٍ لم يتزوج بختامها الأبطالُ.
''بعدما رحل نزار!''.
نزار المولود مع ولادة الربيع في 21/3/1923م والذي علّق على ذلك قائلاً:'' الأرض وأمي حملتا في وقتٍ واحد ووضعتا في وقت واحد...''، نزار الذي قضى حياته في الشعر، يصادف اليوم الذكرى العاشرة على وفاته في لندن في 30/4/1998م عن عمرٍ ناهز الخامسة والسبعين عاماً قضى منها أكثر من نصف قرنٍ من الشعر تنقل بين الحب والكره قدّس المرأة في كتاباته وجعل منها حلقة الوصل بين الأرض والسماء، حارب عن القصيدة حارب عن الأنثى وعن الحضارة، ولعل الإيقاعات النزارية على مقام العشق كانت منذ انطلاقتها الأولى ظاهرةً متميزة ولها حضورها على الساحة العربية محكيةً أو مغناة، ولكن مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها اليوم وبقوة:.
*أين نزار قباني بعد مرور عشر سنوات على رحيله؟.
*وهل ما زال صاحب ''قصيدة الحزن'' -أو مدرسة الحب كما أسماها كاظم الساهر- يتمتع بشعبية الأمس؟.
*وهل الأزمة التي يواجهها الشعر اليوم مردها الشاعر أم الجمهور؟.
ولأن نزار لم يطلب يوماً أن يتربع على إمارة الشعر كغيره، ولإنه اختزل الكثير في شعره، ربما حمل لنا الإجابة عندما قال:.
''سأختصر الآن كل القضيه، أنا طيب القلب في الحب جداً، وأنتِ..، -برأي جميع الشهودْ-، أهم ممثلةٍ مسرحيةْ..''
المفضلات