كل هذه معجزات لا يمكن أن تدخل فيها الأسباب .. بل هنا تتجلى طلاقة القدرة في أن يقول للشيء ( كن فيكون ) .. ثم تأتي بعد ذلك طلاقة القدرة في زكريا ومريم .. حينما دعا زكريا الله أن يهبه غلاما : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيي ) .. ( يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) هنا أخذتزكريا طلاقة القدرة فاهتز .. وسأل الله سبحانه وتعالى كيف يمكن أن يحدث ذلك وهو شيخ كبير وامرأته عاقر أي أن الأسباب إذا طبقناها هنا لا يمكن أن تؤدي إلى مولد طفل .. حينئذ رد الله سبحانه وتعالى عليه : ( هو عليّ هين . وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) .. أي أن الله سبحانه وتعالى ذكر زكريا بطلاقة القدرة فقال له لا تعتقد أن هناك شيئا صعبا عليّ لأن الأسباب لا تأتي به .. بل من أهون الأشياء على قدرتي أن أفعل ما أريد .. ويتم ما أشاء بدون أسباب .. وإذا كان هذا صعبا على فهمك .. فتذكر خلقك .. ( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) .. فإذا كانت قدرتي أن أوجد من العدم .. أفلا أستطيع أن أخلق بلا أسباب وعندما دخل زكريا المحراب على مريم وجد عندها رزقا .. أي فاكهة في غير أوانها .. فسألها : ( أني لك هذا ) أي من أين أتيت بهذه الفاكهة وهذا الطعام .. فقالت : ( هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) .. إشارة إلى أن طلاقة القدرة لا يستعصي عليها شيء بل إن خلق المسيح عيسى ابن مريم كان من طلاقة القدرة .. والله سبحانه وتعالى خلق آدم من لا شيء .. وخلق حواء من آدم .. أي أنثى من ذكر بلا أنثى .. وخلق من ذكر وأنثى .. ولإتمام مراحل الخلق بقي أن يتم الخلق من أنثى بدون رجل .. وقد تم ذلك في عيسى ابن مريم عليه السلام فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى الإسراء والمعراج نجد أنها معجزة كبرى دالة على طلاقة القدرة , فرسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى به من مكة المكرمة إلى بيت المقدس .. حيث صلى بالأنبياء .. وهي طلاقة في القدرة أن يصلي حي بأولئك الذين انتقلوا إلى جوار ربهم منذ مئات السنين .. ثم بعد ذلك انطلقت به طلاقة القدرة ليخترق السماوات السبع .. ويصل إلى سدرة المنتهى .. وهذا الاطلاق كان فيه تغيير لطبيعة الأشياء حتى يمكن لرسول الله أن يصل إلى سدرة المنتهى .. بل إن الوحي نفسه من طلاقة القدرة أن يلتحم الملك بإنسان ليتم تبليغ القرآن الكريم كل هذه الأشياء في مجموعها .. هي تطبيق حي لطلاقة قدرة الله سبحانه وتعالى .. فالله لم يذكر لنا طلاقة القدرة في القرآن الكريم .. دون أن يعطينا أمثلة على التطبيق .. متواكبة مع رسله .. تؤيدهم هذه القدرة بالمعجزات التي رواها لنا القرآن الكريم على أن طلاقة القدرة لم تتوافر للرسل وحدهم .. بل هي في كل جزء من الحياة وإذا أردنا أن نتأمل طلاقة القدرة في مظاهر الدنيا .. فلنأخذ قول الله سبحانه وتعالى : ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ) إذا تأملنا هذه الآية الكريمة نجد أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلا ببعوضة , والمثل هنا كالأمثلة في القرآن الكريم لا تضرب جزافا .. ولكن لحكمة بالغة .. حين ضرب هذا المثل قال الكفار ماذا أراد الله بهذا مثلا ولم يفهموا شيئا .. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضرب مثلا بدقة الخلق .. فإن خلق البعوضة المتناهية في الصغر بكل الوظائف اللازمة لها في الحياة .. دقة في الخلق تستوجب خالقا قادرا .. فهذه البعوضة الصغيرة الحجم .. قد جعل الله فيها كل أسباب الحياة .. وما فوقها .. أي ما أصغر منها وأدق في الخلق .. خلقه الله ووضع فيه أسباب الحياة .. واستمرار الحياة *من كتابات الشيخ الشعراوي
المفضلات