يا هزاع , خيلك لا زالت تصهل
بقلم : أم خالـــد
حين تشابكت سنابك الخيل ، و تراكض الخوف بين صفوف فرسانها ، وحين تيبست أكفهم على الرماح المتكسرة ، وحين امتصت خوذاتهم ، أشعة شمس غاضبة ، وحين فغرت المقابر أفواهها لأبناء العمومة ، بدمائهم المهدورة لشرف العشيرة ، وبعباءات الوبر الرثة ، والشوارب المصبوغة بدخان التبغ ( البلقاوي) ، وحين ضاعت رتب وشارات قادة السرايا، وتسللت النياشين المدمية من حقائب الجنود الجياع ، وحين تراكض أطفالهم الخائفون، بوجوههم الصفراء ، حفاة عراة جياع ، بين صفوف المقاتلين المنهكين، المنطرحين على الجنبات ، وحين انتظرت نساؤهم لحظات العودة ، ليمسحن بأنامل مرتجفة هزيلة ، دماء سالت لتستقر في محاجر عيون غاضبة ، وتلم برفق بقايا أقدام سمراء ، تجمدت دماؤها ، وازرقت منها أصابع ، لا زالت منها بقايا ، في مقابض المناجل والمعاول المخبأة ، وتختبئ تحت أظافرها ، ذرات من تراب البلقاء ، والكثير من أشواك حوران .
حينها كنا أردنيين يا (هزاع) .....
وحين امتصت أرض المعركة المقدسة ، حمحمات خيلهم ، وقرع طبولهم ، وسعالهم ، وأنينهم وحنينهم . ورائحة معاطفهم العسكرية المبللة بعرق الخوف ، وحين ركلت جباههم المدماة ، الملقاة بذاك الركن بأحذية المجندات ، وأحرقت شفاههم بأعقاب السجاير.
حينها يا ( هزاع ) كنا أردنيين ...
أردنيون ... كعهدك فينا . حتى لو مادت مآذننا خوفا ، وتراقصت أضواء الفوانيس الخضراء ، في محاريبنا المهجورة ... حتى لو غادرت أسراب القطا حقولنا ، بعد أن عرفت القطط البرية ، دروب أعشاشها ، وبالت الثعالب المسعورة في مشاربها ، ولوثت رائحة البترول مياه ينابيعها .... حتى لو حطمت (جدتي)!! جرارها ، وصندوق عرسها ، وأحرقت دامرها ، ولفـّت رأسها بشماغها الأحمر؛ الذي عبثت سنابل الحقل العاقر بدناديشه ، وسرقت أشواك ( العليق ) خيوطه .
جدتي يا (هزاع) ، ما حطمت صندوق عرسها ... ما خافت حين ألقت نظرتها الأخيرة ، من بين أهداب متهالكة ، على سرب الجراد القادم ، ما خافت جدتي يا ( هزاع ) ، وهي تمد يدها المعروقة الهزيلة ، لحفنة تراب خنقتها بين أصابعها الخشنة ، علها تسمع نبض ذراتها ، ولتذروها تعويذة على أحداق العذارى ، اللواتي قيدن لمهاجع الغزاة ...
جدتي يا (هزاع) ...ما خافت ، ولا تاهت ، ولا ماتت ، وهي تبحث عن رعيان الحي ، بين صخور البركان الميت .
جدتي يا ( هزاع ) ، ما كسرت صندوق عرسها ، الموشّم بالصدف الرخيص ، ولا نثرت بقايا الحناء ، على الصخرة الجاثمة في حاكورتها الغربية . هل تعرف يا ( هزاع ) أنها ما نسيت مكحلتها و(عرجة ) رأسها ، ومحماسة قهوتها ، وختم جدي ــ مختار القرية ــ و( شبريته ) ، ووصيته ، و ( قواشينه ) صفراء اللون .
جدتي يا (هزاع) ... لا زالت أذنها ، تطرب لضبيح جرن قهوة المساء ، تحمله النسائم الشرقية ، لتزور معه شعاب القرية النائمة و( حلالينها ) ، وتطرب لشجوه الحزين ، بنات آوى ، اللواتي يتربصن هبوط ليل القرية البارد . لا زالت أذن جدتي ، تطرب لشرة المزراب ، مع أول الموسم ، أو حين يدهم الوابل سطوح القرية المنسية ، مع الهزيع الأخير لليلة تشرينية ...
جدتي يا (هزاع) ...ما ماتت . وها أنا ... لا زلت مثلها ، أبحث عن رعيان الحي . وأسمع صهيل خيولهم ، قادمة من بعيد ، حوافرها مكسوة بـ (حماري) حوران ، ووجيب قلوبها كرعد شيحان .
يا (هزاع) ... لا زلنا نسمع لخيلكم صهيل ...ولفرسانكم جلبة.
المفضلات