كـتّـــــــاب
لقد استبدَّ بي
(ياسر) ابني الأصغر، تجاوز عامه الأول باقتدار ولديه أسنان صلبة.. وصدقوني أنه تعلم (العضّ) على أناملي وأكتافي..
ما دخلت داري إلاّ ومارس استبداده عليّ.. فهو غالباً ما يرمي هاتفي خلف الكراسي، وقد تعلم للتو كيفية اطفاء التلفاز، ويستطيع أن يشغل (الكوندشن).. وهو الذي يجعلني أصحو من نومي في الثانية صباحاً كي أبحث في صيدليات عمان عن (تحاميل) للحرارة.. هل أفصح بسرّ؟! أنا الأب الوحيد الذي لا يقوى على أن يدخن سيجارة داخل المنزل، فقد اتعبني غبارها (20) عاماً وأخاف على ياسر أكثر من قلبي.
هل اكشف أسرار ياسر أكثر، يصحو قبلنا جميعاً في السابعة صباحاً، ويلملم كل الأغراض الموجودة في أدراج المطبخ وينثرها في مساحات (الدار)... وعليّ في لحظة من النعَسِ والتعب أن أصحو معه.. وأعترف لكم أني تعلمت إعداد الحليب جيداً واستطيع أن أقدم له (زجاجة الحليب) وأحاول عبثاً أن أرميه بين يدي كي ينام وأنام في أحضانه.. فبرغم صغره.. برغم ضآلة حجمه أحسه وطن بكل التفاصيل.
أتدري يا فتى أنك عيوني وقلبي.. والضلوع وأني خبأتك بين سطوري حين ولدت وأني ما مر يوم إلا وسألت الدار عن شغبك وماذا فعلت وكم (فوطة) استهلكت.. ومَن ومِن اخوتك تعرض (لعضّات) أسنانك النبيلة.
أتدري يا فتى...
اني اخطف النظرات من خلف الباب في ليالي التعب كي أراقب خصلات شعرك وكي أتأكد أن (اللحاف) يغطي كامل جسدك وأشمشم في لحظة من النعاس الشديد قدميك وأخاف عليهما.. أخاف على رموشك وأنفاسك وأحياناً أشعل ضوء الموبايل كي أتأكد أن اظافرك ليست طويلة.. لأنني أخاف أن (تخرمش) وجهك الجميل النبيل الكركي... وأحلمًُ فيك حين تكبر وتحملني بين يديك الحانيتين وأنا مسجى في كفني وتضعني تحت تراب الكرك.
نحن لا ننجب الأولاد كي نجعلهم يتعبوا في الحياة، ولكننا ننجبهم كي نتأكد في لحظة الموت أن ثمة فتية أشاوس.. دمهم من دم العسكر ووجوهم بدوية بالفطرة، سيحملوننا بين أيديهم في لحظات الموت وينثرون علينا من تراب الكرك.
في كل دول العالم يوجد شيء اسمه (صندوق الأجيال)... وكل خطط الحكومات وبرامجها يوجد فيها شيء اسمه التخطيط للمستقبل.. وأنا لا أكتب عن (ياسر) بشكل مجرد، ولكني أفكر في الأطفال الذين في عمره ماذا أعددنا لهم مستقبلاً.. وهل نتذكرهم في خططنا الاقتصادية.
في آخر (10) سنوات من عمر الراحل الكبير الحسين بن طلال، لم يمر خطاب له إلا وذكر الأجيال القادمة وأكثر أنهم الأمل وذخيرة الأردن، وفي كل خطاب للملك عبدالله يرد ذكر الشباب والأطفال والإعداد لهم.. ونحتاج أن تعي الحكومات حجم المسألة وخطورتها.. نحتاج منها صندوق للأجيال القادمة.
أرهقنا التعب وما فشلت به في حياتي سينجزه ياسر.. يا ياسر يا قلبي ودمي وعيوني أنا عائد هذا المساء إلى (الدار)... أرجوك أتوسل إليك أن تجعلني أحضر المباراة بهدوء ودون أن تمارس استبدادك عليّ.. فأنا أحبك حدّ الجنون.
عبد الهادي راجي المجالي
المفضلات