أبواب
ذوق البحتري وتذوقه
- اثنى المتنبي على الشاعر الفذ البحتري ثناءً كبيراً، وليس المتنبي شاعراً تسمع كلامه ثم تتركه الى كلام آخر، لا بد ان تتوقف عند هذا الشاعر وتجل بعد ذلك للشعر العربي كله اذ فيه هذا الشاعر العملاق، قال المتنبي:
انا وابو تمام حكيمان وانما الشاعر البحتريّ فاذا كان الشاعر العملاق يصف البحتري بهذا الوصف، فكيف سيكون ذوق البحتري، وشعره وشاعريته؟ لا نستطيع ان نقول كان عظيماً وكان ممتازاً، فان هذه الاوصاف حقيقية ولكن عليك ان تعايشه قليلاً في قصائده الغراء لتعلم ان البحتري كان شاعراً يستحق وصف المتنبي له.
لقد وجدنا هذا الثناء بعين ناقدة عند اثنين من البلاغيين الناقدين: الآمدي والجرجاني، اعجب الامدي من تأثره بصياغات البحتري الرائعة، فعلم وهو يقرأـ قول الله تعالى «وقل لهم في انفسهم قولاً بليغاً» ان الذي جعل البحتري محبباً الى النفوس، مرضياً عندها هو ذلك القول الذي يخترق هذه النفوس ويعتمل فيها، وقد نجح في ذلك البحتري، وان القارئ لشعره بتذوق وفهم يدرك مدى استقبال النفوس لتصوير البحتري، ولوحاته الفنية، واما الجرجاني فقال وهو يقرأ للبحتري وصفه لبركة المتوكل، ووصفه للوحة الفارسية المنصوبة في قصر الملك الفارس قال: لا تكاد تجد شاعراً يعطيك في المعاني الدقيقة ما يعطي البحتري، ولو اعاد دارس العربية ومتذوقها قراءة اللوحة الفارسية الآن اي بعد انتهاء عصر البحتري بأكثر من احد عشر قرناً لتغنى بهذا البيت وتأثر به كما تأثر الامدي والجرجاني وغير الآمدي والجرجاني اذ قال البحتري:
يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يداي بلمسِ
ولم تكن هذه اللوحة الفنية الشعرية البحترية لتغيب عن امير الشعراء احمد شوقي، فقد نفي في العصر الاستعماري من القاهرة الى الاندلس، كان في الرجل حس عربي اسلامي، فرأى في الخديوي خيراً فأيده وعزره، ولم يعجب ذلك المستعمرون الانجليز، فقال قصيدة سينية تستطيع ان تسميها نهج اللوحة، اذ كان وزنها كوزنها وكانت قافيتها السينية كقافيتها، وما زلنا نقرأ قصيدة الشاعر احمد شوقي لنعرف كيف يحس الانسان في الغربة، وكيف يرق شعوره وتهيج خواطره، وكيف يظهر المه ببلاغة مؤثرة لا اصطناع فيها، قال شوقي:
كلما مرت الليالي عليه
رقّ وعهدي بالليالي تنسّي
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس
قال الجرجاني معتزاً بقوة البحتري وذوقه وربطه الصياغة القوية بهذه المعاني المؤثرة: فكر في حالك وحال المعنى معك، وانظر لبيتين للبحتري يصف فيهما صاحبه بكل بلاغة مشبهاً اياه بالبدر في علوه، ولكن فوائده سارية بين الناس، تفاوت في المكان وتحبيب اليك ونبل في النفس وانس. اذاً للبحتري ذكر وتحية.
د . كامل جميل ولويل
المفضلات