*** ماذا نعني بالشـــــــــــــفافية ..... ؟ !!! ***
GMT 6:15:00 2008 السبت 22 مارس
الإقتصادية السعودية
تاريخنا الإسلامي حافل في عصور ارتقائه بأمثلة لا تُحصى لتثبيت مُثل الشفافية في الدولة والمجتمع?
لا يكاد يخلو هذه الأيام مقام ـ أي مقام ـ للحديث أو النقاش سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو حتى اجتماعيا دون أن تدخل كلمة "الشفافية" حاضرة فيه. فالحديث بين الحاكم والمحكوم وبين المالك والمدير وبين المنفذ أو المنتج والعميل وبين فرد وآخر من العائلة نفسها لا مفر من احتواء بعض مفرداته بين الحين والآخر على هذه الكلمة. وظاهرة استعمالات وفي بعض الأحيان تطبيقات الشفافية لها انتشارها الواسع في كل المجتمعات والدول والمحافل على اختلاف ثقافاتها وظروفها. والعجيب أن هذا الانتشار الهائل هو لظاهرة حديثة في مظهرها بمسمى قديم لم يكن حتى فترة قريبة يثير أي اهتمام مثل ما يفعله اليوم. فقد خلا معظم القرون بل حتى معظم عقود القرن الماضي القريب من الاستعمالات لهذه الكلمة في الإطار والمضمون نفسيهما الذي تستخدم فيهما في هذا العصر. ويثير هذا الظهور المفاجئ نسبيا لكلمة الشفافية أسئلة عديدة مركزة لا تجد لها بالضرورة إجابات بالتركيز نفسه. فما الشفافية؟ وهل لها معنى وتعريف وتطبيق محدد؟ وهل هي إحدى القيم الإنسانية أم وسيلة إليها؟ وهل ترقى إلى أن تكون أحد حقوق الإنسان التي تستدعي الذود عنها؟ وهل لها صيغة واحدة تنفع لكل مكان؟
وهل كلها طيب ولا عيب أو خلل فيها؟ وكيف يفرق بين الحالتين إن لم تكن كذلك؟ أسئلة كثيرة على هذا المنحى تثار في الأروقة العامة والعلمية والمؤسسات الدولية وتزخر بها الندوات والصحف وغيرهما. وتستطيع كل دولة "بما فيها نحن" أن تحور هذه التساؤلات على وضعها وما تعنيه لها وأي التطبيقات تنشد.
وليس مجال هذا المقال الإجابة المباشرة عن هذه الأسئلة. فليس المكان ولا إمكانات الكاتب ولا مرحلة تطور الظاهرة تسمح بذلك. وإنما يأتي هذا المقال ليلقي الضوء على بعض الملامح المصاحبة لانتشار وتكوين هذه الظاهرة.
بداية لابد من رصد سريع لمسار ظاهرة الشفافية التي اكتسحت المنابر والمجتمعات في الفترة الأخيرة.
فكلمة "الشفافية" لو أردت البحث عنها في الماضي ـ حتى القريب نسبيا ـ فلن تجد لها تعريفا يواكب ويرتبط مباشرة باستعمالاتها ونطاق النقاش اليومي عنها في أيامنا هذه. مثلها في هذا مثل ظاهرة التخصيص اليوم والتي تشكل لها معنى اقتصادي محدد شامل لم يكن موجودا قبلها. قبل نهاية القرن الماضي (القرن العشرين) بحقبة صغيرة انتشر استعمال كلمة "الشفافية" انتشارا لا يمكن ربطه مباشرة بأحجام ومجالات استعمالاتها فيما قبل تلك الفترة.
فلو بحثت في متون الثقافات المختلفة القديمة عن هذه الكلمة لما وجدت أكثر من كلمة الوصف "شفاف" دون ما يوحي إلى كثير مما يشمله الإطار الحالي لاستعمالات هذه الكلمة. فهل هذا يقود إلى الاستنتاج إلى أن هذه الظاهرة هي نتاج لأحداث وأفكار العجز الأخير من القرن الماضي؟
ليس بالضرورة. الشفافية عنوان تجمع تحته تجارب ومثل إنسانية مختلفة على مر العصور. فالانفتاح والإنصاف والمحاسبة، وهي من ضمنيات ظاهرة الشفافية اليوم، تجارب ومثل إنسانية طورها الإنسان منذ غابر العصور وفي كل الحضارات.
وتاريخنا الإسلامي حافل في عصور ارتقائه بأمثلة لا تُحصى لتثبيت هذه المثل في الدولة والمجتمع. فحياة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كلها مثال ناصع حي لكل هذه المثل منذ اعتنق الإسلام. وكان الإنصاف وحماية مال المسلمين وكشف الحقائق والمحاسبة عنوان خلافته الراشدة.
وضرب المثل تلو الآخر دون تناقض أو محاباة لتطبيق هذه المثل. وهناك غير عمر وأقواله وأفعاله ممن سعوا إلى الهدف نفسه. والتاريخ الإنساني مملوء أيضا بأفراد حثوا على هذه الفضائل ودعوا إليها. ولقد استمرت هذه المثل والفضائل بصورة أو بأخرى على مر العصور تتطور في أشكالها واستعمالاتها بوتيرة تواكب سرعة تطور حياة الإنسان.
ونعرف أن التغيير في نمط حياة الإنسان في القرن الماضي خاصة النصف الأخير منه يزيد على حجم جميع ما تم من تغيير في ما سبقه من كل القرون. فثورة التقنية والاتصالات مع ما واكبها من انفتاح في الأنظمة والمواثيق لمست وأثرت في كل أنماط حياة الإنسان. وتم خلال ذلك غربلة المفاهيم وإعادة ترتيبها والتفصيل فيها ومواكبتها متطلبات العصر المختلفة عما سبقها. ومن ضمن ذلك موضوع الشفافية أو المثل التي ترتكز عليها. وكان حصيلة ذلك تجميع مثل وفضائل تترابط في بعض أجزائها لتكون ظاهرة أشمل. وإن كنا لا نستطيع تحديد تعريف للشفافية مقبول للجميع، فإنه بالإمكان القول إن التعريف المطلوب لا بد أن يأخذ بتجارب ومثل للإنسان نضج بعضها قبل القرن العشرين بقرون عدة مثل الانفتاح والمحاسبة والعدل للوصول إلى ذلك التعريف. ولو أردنا الوصول إلى تعريف للشفافية بتجميع مفاهيم هذه المثل فلن يكون الأمر بهذه السهولة بحيث نصل إلى إطار يرضى عنه الجميع. فالشفافية بهذه المكونات عند تطبيقها على المنحى السياسي سيختلف تعريفها عن مثيلها في المنحى الاقتصادي أو الاجتماعي. ومع هذه الصعوبات في التعريف يمكن التعميم بالقول إن الشفافية ظاهرة عامة تحوي في مظلتها مجموعة مثل في تطبيقات مختلفة تقود في النهاية إلى غايات نبيلة مثل الفضيلة والعدل.
وبعد شيوع استعمال "الشفافية" في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، اندفع الإنسان إلى تطوير معنى وآليات تطبيق الشفافية بسرعة وتسارع العصر نفسيهما الذي نعيشه. فعلى المستوى السياسي خلقت منظمات لها صفة الدولية وشرعت قوانين في الهيئات التشريعية وعملت معايير كلها تهدف إلى الانفتاح وتوفير المعلومات وحفظ المال العام وخلق بيئة عمل عادلة. ولقد كانت قوانين حرية المعلومات التي أخذ بها بعض الدول والمنظمات الدولية خاصة في الغرب إحدى ثمار هذا الاندفاع مما جعلها آلية لترسيخ ظاهرة الشفافية على المنحى السياسي وإلى حد ما الاقتصادي. كما أن حوكمة الشركات والمؤسسات ظواهر تدفع بوضوح إلى تأسيس الشفافية لدى تلك المؤسسات لمحاسبتها ولتجنب الفضائح المالية فيها التي هزت أخيرا كثيرا من اقتصادات بعض الدول وأضرت بمساهميها.
وللحديث بقية لنلقي الضوء على ما تبقى من تساؤلات أثيرت في مقدمة هذا المقال ..... !!
المصدر
ايلاف
الثقافي
المفضلات