تردد الجندي في خطواته وهو يتفقدّ القريةَ المنكوبةَ بسبب الحرب، بعدما غادرها العدو، وقد حمل معه القليل من الزادِ ليوزعه على أهل القريةَ.
سار قليلاً باتجاه البيت القابع في أعلى التلّة، حيث شجرة البلوط التي تحمل لوحةً كُتب عليها " كل الأشياء قابلة للبيع" وثمة سهم يشير إلى المكان تساءل في نفسه عمن كتب اللوحة، .... ربما كان صاحب البيت يريد بيع داره، أو ربما يكون قد رحل بعائلته إلى مكان آمن ثم عاد لبيع ما تبقى.
أسرع الخطو نحو الدار التي ما أن وصلها، حتى كانت بوابتها الخشبية مُشّرعة، قرع الباب، وانتظر قليلاً... ليسمع صوت إمرأة عجوز تطلب منه الدخول، كان صوتها ضعيفاً.
دخل إلى البيت الذي يحتوي على القليل من الأثاث العتيق، وبعض الحاجات الشخصية، جال بعينيه بحثاً عن المرأة.
كانت تجلس على أريكة عتيقة، تُغطي كتفيها بشالٍ صوفي، وترتدي جوارب سميكة، رفعت رأسها الأشيب ثم طلبت منه أن يقترب منها كي تراه بوضوح.
- من أنت؟ سألته بحزم.
= أنا من جنود قوات حفظ السلام في المنطقة.
- وماذا تريد؟.
= أتفقّد أحوال أهل القرية، أساعد الجرحى، وأُوزع الطعام على السكان.
- لكنهم رحلوا، ومن بقي منهم تعرض للقتل في المعركة، ولم ينج منهم إلا القليل.
= أعرف ذلك ولهذا أنا هُنا.
- تنهدت العجوز.
= أحضرت لك طعاماً قال لها .....
بدت شاردة، ناولها بعض الخُبر والجُبن.... أخذت منه الصُّرة بيد مرتجفة ثم سألته:هل ترغب بشراء بعض هذه الأشياء؟.
= لماذا تُريدين بيعها؟.
- لأتخلص منها وأجمع بعض النقود التي تمكنني من العيش في هذه الحرب اللعينة.
= هل أنت هنا وحيدة يا أمي؟.
تنهدت وانحدرت منها دمعة من عينيها، أنا الآن وحيدة بعدما ذهب ابني إلى الحرب للدفاع عن وطنه، لكن أخبرني ألا ترغب في شراء بعض الأشياء، قدّمت له مفرشاً سحبته من على الطاولة... كانت قد حاكته بصنارتها، قلّبه بين يديه....
- هل يُعجبك هذا؟ إن كان عندك أُم تستطيع تقديمه لها، فالنساء عادةً يرغبن بهذه المنسوجات.
ظل صامتً .... تابع النظر في محتويات الغرفة.
- هذه مجموعة من الملاعق الفضّية القديمة التي ورثتها عن أمي ربما تُعجبك قالت العجوز .....
= لا حاجة لي بها الآن.
- رفعت الشال الصوفي عن كتفيها وقدمته له قائلة... ما رأيك بهذا قد تحتاج إليه... وسأبيعك الأشياء بثمن رخيص... فقط ما يسدّ الرمق... جال ببصره في أرجاء الغرفة، وقع نظره على تمثال خشبيِّ صغير، يُمثّل امرأة تحمل طفلها.... كانت العجوز قد وضعته أمامها، اقترب منه وأمسكه بين يديه ثم راح يُقلّبه، كان يبدو عتيقاً قد تآكل خشبه.... لكنه ما زال يحتفظ ببعض الرونق.
= أريد أن أشتري منك هذا التمثال .....
- لكنه ليس للبيع....
= ومع ذلك فهو يعجبني....
- هذا ليس من الأشياء المعروضة للبيع.
= أدفع لك عشرة دولارات ثمناً له ....
- قلت لك أنه ليس للبيع.
= لكنه يبدو رخيص الثمن.
- هذا من وجهة نظرك، أما بالنسبة لي فهو يذكرني بإبني الذي قدمه لي هدية في عيد الأم ثم مضى إلى الحرب.
= خمسين دولاراً ......
- لا ..... لا .... قالت مرددة.
= أراه يعجبني يُذّكرني بأمي.....
- وأنا لا أريد بيعه فهو يذكرني بإبني.....
= أعطيك سبعين دولاراً.
تنهدت ... ثم نظرت إلى التمثال مترددة، تخيلّت إبنها ببزته العسكرية ينحني عليها ويُقبلها ثم يقدمه لها.
- لا .... لا.... هذا ليس للبيع ردت بحزم...
= مائة دولار ... ولن أزيد ....
حدّقت بوجه الجندي، وهي تدرك أن التمثال لا يساوي أبداً مثل هذا السعر، ثم فكرت في أن ابنها سيشتري لها بدلاً منه عند عودته من الحرب.
هزّت رأسها موافقة وهي تفكر في المبلغ الذي يعني لها الكثير من مثل هذا الزمن الصعب.
مدّ يده وناولها ورقة النقود، أمسكتها بيدها وراحت تتحسسها، حمل التمثال لملم أشياءه القليلة ومضى باتجاه الباب يريد الخروج وما أن تخطى العتبة حتى صفعته أشعة الشمس التي كانت تنسكب على تين عارية.... استدار باتجاه العجوز التي كانت ما تزال تمسك بورقة النقود .... وفي عينيها تترقرق دمعه ....
حدق في وجهها وقد تراءت له صورة أمه ... مشى خطوات صوبها، انحنى أمامها، أمسك بالتمثال ووضعه في حُجرها، قبلها في رأسها، ومضي لا يلوي على شيء وسط ندائها كي يرجع ويسترد نقوده.
* سحر ملص
المفضلات