هيلاري ودبلوماسية القفازات الحديدية!
تحدث إليَّ مؤخراً صديق يعتبر أحد قدماء «الجمهوريين» ومن رجال الأعمال المحسوبين على «الولايات الجنوبية الحمراء» ذات التوجهات المحافظة المعروفة، كما يعتبر من قدماء المحاربين الذين شاركوا في حرب فيتنام وتقلد وسام الشجاعة لبلائه الحسن في تلك الحرب، وحتى لا أطيل لم يكن هذا الصديق في يوم من الأيام من المتعاطفين مع وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، ولكن مع ذلك وجدته يعترف لي بأنه بدأ في تغيير موقفه إزاءها معبراً عن إعجابه بسياساتها، حيث قال: «إنها تقوم بأشياء جيدة وتبذل جهوداً جديرة بالتقدير، ولو كانت مخطئة، أو تقوم بعمل سيئ لوجدت اليمين بأجمعه يشن حملة شعواء ضدها، إلا أنه إلى حد الآن صامت لأنه لم يعثر على ما يدينها». والحقيقة أن هذا التقييم صحيح إلى حد بعيد، ذلك أن هيلاري التي كانت في السابق أكثر سيدة أولى مكروهة في أميركا، باتت تخطو اليوم بثبات كرئيسة للدبلوماسية الأميركية إلى درجة أن الجناح اليميني، وتحديداً أصحاب البرامج الإذاعية المعروفون بسلاطة اللسان، اعتبروها العنصر الجيد ضمن فريق أوباما كله
بل إن الخطاب الحالي الذي يتبناه الجناح اليميني داخل الحزب «الجمهوري» هو تمني أن يكون «أوباما مثل وزيرة خارجيته، لأنها ما فتئت تدفعه قدماً في التعامل الصارم مع إيران، كما تدفعه إلى إرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان، وفيما يبقى هو متردداً تمثل هي القبضة الحديدية داخل قفازات مخملية». ولكن رغم صحة الكلام الذي يذهب إليه اليمين من أن كلينتون صارمة أكثر في التعامل مع إيران إلا أن من الخطأ توقع وجود فروق شاسعة بين وزيرة الخارجية والرئيس.
فلا شك أن موقف كلينتون إزاء إيران كان حازماً وغير متردد في رفض برنامجها النووي، كما أنها من الذين أدركوا مواقف طهران ورفضوا الانجرار وراءها، وباعتبارها «مطرقة» الإدارة في موقفها حيال إيران فقد جاء خطابها قاسيّاً ومباشراً، حيث أعلنت منذ البداية أنه يتعين على طهران احترام التزاماتها الدولية بموجب اتفاقية عدم الانتشار النووي التي تعتبر من الموقعين على بنودها، وإلا ستجد نفسها في عزلة دولية متزايدة. كما حذرت من أنه في حال اكتسبت إيران السلاح النووي فإن ذلك سيطلق سباق تسلح في العالم العربي والشرق الأوسط، وبحسب مساعد مقرب من وزيرة الخارجية طلب مني عدم الإفصاح عن هويته «كان كل من الرئيس ووزيرة خارجيته يعرفان أن محاولات أوباما في البداية للتواصل مع إيران ستؤول إلى الفشل»، ولكن ذلك على ما يبدو كان جزءاً من حساب واشنطن على المدى البعيد. وكما أوضح المساعد الذي رفض الإفصاح عن اسمه «إن فشل مساعي التواصل مع إيران سيعطي شرعية للضغوط الممارسة عليها... لأنه في حال رفضت طهران المساعي الدبلوماسية فإن ذلك سيبرر العقوبات كما سيكون من السهل على الولايات المتحدة حشد التأييد الدولي ضدها»، وهو ما تبلور مباشرة بعد الإعلان عن التوقيع على اتفاق مع تركيا والبرازيل في 18 مايو الجاري، حيث سارعت كلينتون إلى التأكيد بأن روسيا والصين تساندان فرض حزمة جديدة من العقوبات على إيران.
ومع أن كلينتون تبدو دبلوماسية محنكة بالفطرة، لكنها على الأقل اكتسبت بعض الصفات مثل الجلد والانضباط والمهنية من الضربات التي تلقتها على سندان سنواتها الثماني التي قضتها إلى جانب زوجها عندما كان رئيساً، كما أن الفضل في عدم نشوب صراعات داخلية بين أجنحة الإدارة المختلفة ومؤسسات الأمن القومي يرجع أساساً إلى براعتها السياسية وحنكتها في إدارة وزارة الخارجية وتدبير علاقتها مع باقي المؤسسات المهمة في واشنطن. حيث تميزت الفترة التي ترأست فيها الدبلوماسية بقلة المنافسة البيروقراطية والتناقضات في السياسة التي ألفتها واشنطن خلال الخمس والأربعين سنة الماضية، ولم تشهد المؤسسات الرئيسية مثل البنتاجون ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية صراعات كما كان عليه الحال في إدارات نيكسون وكارتر وريجان وبوش عندما تحول التوتر في العلاقات بين فروع المؤسسة الحاكمة إلى صراع مفتوح. ويبدو أن التنافس اليوم على استقطاب الأنظار وتحقيق الشهرة بات أقل بسبب إدراك الجميع أن أوباما وحده هو من يحتكر الشهرة. وعلى رغم وجود بعض الاختلافات بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض إلا أن ذلك مطلوب في حده الأدنى ما دام التطابق في الرؤى ووجهات النظر لا ينتج سوى الجمود، ويقتل الخيال.
ويواصل مساعد كلينتون قائلا إن أوباما هو من حدد العلاقة بين مكونات فريق الأمن القومي، مشدداً على أنه يريد فريقاً منسجماً بعيداً عن الخصومات الداخلية، وهو تغير محمود قياساً لما وصلته العلاقات من توتر بين بوش وتشيني، ورامسفيلد، ورايس، وربما يرجع السبب في هذا الانسجام بين أعضاء فريق أوباما إلى اختفاء الفروق الأيديولوجية بين وزير الدفاع الحالي جيتس، ووزيرة الخارجية كلينتون، وتركيزهما معاً على القضايا والملفات الثقيلة المطروحة على أجنداتهما. ولاشك أيضاً أن تجربة كلينتون كعضو في لجنة الخدمات العسكرية بمجلس الشيوخ ساعدتها على التقرب أكثر إلى المسؤولين العسكريين وفهم طريقة عملهم.
فهل يعني ذلك أن كلينتون وصلت إلى مستوى «جيمس بيكر» الذي يعتبر آخر الكبار ممن تولوا وزارة الخارجية الأميركية؟ ربما ليس بعد، ولكن العالم ثنائي القطبية والأقل تعقيداً الذي ظهر فيه بيكر لم يعد موجوداً اليوم، بل لقد برز عالم جديد تجاوز حتى التعددية القطبية ليغدو حسب تعبير كلينتون نفسها «متعدد الشركاء»، ومع ذلك تشير الوزيرة إلى أنه لا يمكن أبداً لمشكلة عالمية كبرى أن تحل دون الانخراط الأميركي مع مختلف الأطراف العالمية الأخرى.
والتر روجرز(محلل سياسي أميركي)
«كريستيان ساينس مونيتور»
والاتحاد الامارتية
المفضلات