آخر الحروب .. أم بداية التحرير؟
في 25 ايار، أُخرجت إسرائيل من معظم اراضي الجنوب، بعد ثمانية عشر عاماً من الاحتلال. ليس كما خرجت من سيناء، إنما كما يليق بخروج مهزوم يجرّ جثث مشاريعه وقتلاه. وللمرة الأولى تنسحب إسرائيل من أرض عربية احتلتها، من دون أن تملي قيداً أو شرطاً.
ذكرى التحرير ليست حدثاً عابراً في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لقد حطمت مقولة «الجيش الذي لا يقهر». ويعود الفضل الأكبر الى عقيدة وبطولة فئة قليلة مؤمنة وملتزمة وتفوقها على أعتى آلة عسكرية في المنطقة، ما ادى الى انقلاب في المعادلات الامنية والاستراتيجية.
ومع ذلك خرجت أصوات لبنانية وعربية تشكك بانتصار المقاومة وتعتبر أن إسرائيل قد خرجت من الجنوب اللبناني طواعية، وأن سلاح حزب الله أصبح يمثل حملاً ثقيلاً على لبنان.
لقد قسمت تلك الحرب تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلى ما قبل ايار 2000 وما بعده، فبينما كانت إسرائيل لا تتوانى عن اجتياح الأراضي اللبنانية متى تشاء، اصبحت تتجنب الاعمال الاستفزازية على الحدود، معترفة بشكل ضمني بأن أرض لبنان لم تعد ممراً لنزهاتها العسكرية، وأن أي حرب جديدة ستكون أشبه بالانتحار.
حرب تدمير المجتمع
وفي الذكرى العاشرة لحرب تحرير معظم الجنوب في 25 ايار 2000 وعشية حرب تموز 2006، تداولت مراكز الأبحاث والصحف الإسرائيلية مقالات وتقارير عن حرب كبرى قادمة ثأرا لهزيمة اسرائيل. وتم ابلاغ الحكومة اللبنانية بشكل واضح انها والبنى التحتية ستكون الهدف لهذه الحرب المفتوحة امام الجميع ولا تقتصر على مواجهة الحزب ومقاتليه ومراكز اسلحته، بل كل من يرعى ويدعم المقاومة. ان اعلان اسرائيل الحرب المفتوحة على المقاومة والمجتمع في لبنان، دليل على ادراكها خطورة تساند وتضامن الدولة والمقاومة والشعب، كما تجسد في لبنان فقدم نموذجا لحرب التحرير الشعبية الطويلة الامد، والتي تشكل قدوة للقوة الذاتية التي تهابها اسرائيل والتي تعتبر نقطة الضعف في جبروتها.
أيقظت حرب اسرائيل على لبنان حقيقة جديدة، هي ان فصلا جديدا من الصراع العربي ـ الاسرائيلي قد بدأ. وتقارير لجنة القاضي الياهو فينوغراد انتقدت بشدة أداء القيادتين العسكرية والسياسية خلال الحرب، وعلى اثرها اجرت اسرائيل تدريبات واستعدادات لتجاوز الاخطاء. واكد باراك ان اسرائيل اصبحت «جاهزة» وبإمكانها«ان تقدم المزيد» من الحروب.
حزب الله من جهته أعاد تسليح قواته، وهو يعمل على تجنيد وتدريب جيل جديد من المقاتلين. وتشير تقارير غير مؤكدة انه شكل وحدة مضادة للطائرات ويمتلك اسلحة متطورة.
تعيش اسرائيل منذ فشلها في تموز ورشة تحضير مستمرة لعدوان جديد، وتسعى لتجنيد العملاء في كل مكان من لبنان، فتجمع المعلومات لتكوين بنك أهداف جديد، وترسم خطط اغتيال وتخريب في لبنان. كما تواصل قواتها التحضير للحرب القادمة سواء عبر التدريبات والمناورات المتواصلة، أم من خلال مشاريع العمل التسليحية المشتركة مع الجيش الأميركي لمحاولة الحد من فعالية الردع الصاروخي الذي تسنى للمقاومة بفضله ردع العدوان وفرض معادلات وتوازنات لجمت العدوانية الصهيونية كما تبين بالتجربة.
تشرين آخر حرب نظامية
التاريخ لا يعيد نفسه، لكن أحداثه تتشابه، فالحروب التقليدية التي خاضتها قوى عربية نظامية ضد إسرائيل، والتي اختتمتها حرب تشرين 1973، بحالة من اللاحرب واللاسلم مع دول الطوق، سرعان ما أعقبها انقسام عربي أدى إلى معاهدات سلام وجبهة حذرة وممانعة في الجولان؛ تشبه من حيث المضمون الحالة التي وصلت إليها المقاومة اللبنانية في الصراع ذاته. فإذا كان انتصار تشرين قد أسفر عن جبهات صامتة، سلماً أو ممانعة؛ فهل أدت حرب تحرير الجنوب في أيار 2000، وحرب صمود تموز 2006 إلى امر واقع مشابه بسبب توازن الرعب والخوف من التدمير المتبادل؟ وهل امتداد المحور الممانع وتحالفاته وتشعباته جعلت الإقدام على حرب جديدة أشبه بالانتحار الإقليمي؟ ألم تفرض التوازنات الجديدة حالة «الستاتيكو» التي شهدتها الجبهات العربية؟.
فهل حرب أيار وأختها حرب تموز قد أغلقتا باب الحروب العربية الإسرائيلية، بعد أن اعادتا الثقة للمقاتل العربي، كما اعتُبرت حرب تشرين من قبل؟ هل فقدت المقاومة زمام المبادرة في استكمال تحرير الجنوب لأن احتواء أي عمل عسكري لم يعد ممكناً وبات حصره مستحيلا في جبهة واحدة؟
أيار وتموز آخر حروب المقاومة
حرب تشرين هي آخر حرب كلاسيكية عربية يمكن أن تحصل بين جيوش نظامية وذلك بسبب غياب التوازنات الاستراتيجية ونظراً للتفوق الجوي الإسرائيلي. والوضع الذي أعقب حربي أيار وتموز شبيه بحالة الجمود التي أفرزتها حرب تشرين، لذلك فالحربان الأخيرتان وضعتا الصراع العربي ـ الإسرائيلي بين احتمالين لا ثالث لهما:
إما حرب تدمير شاملة تشنها إسرائيل على المنطقة الممتدة من غزة إلى إيران مروراً بلبنان وسوريا، وما بينها من قوى ممانعة رافضة لمشروع الهيمنة الأميركية الإسرائيلية. مع ما يمكن توقعه من تدمير في العمق الاسرائيلي، أو حرب تحرير شعبية، تحشد لها جيوش نظامية وحركات المقاومة وقوى التحرير كل الطاقات العسكرية والإمكانيات الشعبية المتاحة في حرب طويلة الأمد ضد إسرائيل وحماتها. وظروف هذه الحرب تفرض جهوزية وتغييرا في البنى والذهنيات والمفاهيم. الأخطر من خروج النظام المصري من حلبة الصراع، خروج شرائح اجتماعية بسبب خلافات عقائدية صدّعت الوحدة الوطنية والقومية. فحين تتوحد الطاقات النظامية والشعبية وتتلاقى قوى التحرير، تتحوّل المنطقة المحيطة بإسرائيل إلى جبهة شرقية بالمعنى العسكري والشعبي، وتكون مهيأة لخوض حرب وجود مصيرية لتحرير كامل التراب الفلسطيني. غير أن هذه الرؤية الاستراتيجية غير متوفرة في المدى المنظور بسبب الانقسامات الحادة في الشارعين: العربي عموماً واللبناني خصوصاً.
حرب التدمير دونها مخاطر. فرغم التهديدات الإسرائيلية المتلاحقة إلا أنها لا تتعدى الحرب النفسية، نظراً للدمار الذي سيلحق بالبنى التحتية التي ستمنى بها إسرائيل وهي غير قادرة على تحمل الخسائر خوفاً من انهيار جبهتها الداخلية.
وحرب التحرير دونها عقبات مربكة وصعوبات جمّة، أما حرب المقاومة، فقد استنفدت بعد أيار وتموز معطياتها الاستراتيجية التي كانت قائمة على أساس دولة تحمي ومقاومة تقاتل، وغالبية من القوى الشعبية تحتضن. هذه الاستراتيجية وصلت إلى طريق مسدود بعد تداعيات تموز، حيث تم تقويضها من خلال تطويق المقاومة في الداخل بالخوف من الفتنة، بعد تبني فئة واسعة من القوى السياسية والشعبية رؤى مختلفة عن المقاومة، بالإضافة لخطر الصدام بين الدولة والمقاومة، خصوصاً بعد أن انتشر الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وارتفاع أصوات من داخل الحكومة تطالب بحقها بقراري السلم والحرب.
حرب تحرير مؤجلة
في الخلاصة، المنطقة في حالة جمود وترقب، وهي أقرب إلى حرب باردة، بانتظار تغيرات استراتيجية شاملة. الستاتيكو السائد اليوم مستمر إلى أمد مفتوح. إن تداعيات حربي أيار وتموز دللت أن أي حرب جديدة ستكون حاسمة ونهائية لما لها من امتدادات إقليمية ودولية شاملة، لذلك تتجنبها الأطراف الفاعلة. كسرت حربا ايار وتموز الخوف العربي والعجز العربي وقدمتا نموذجاً طليعياً لحرب تحرير قومية قد تحصل في ظروف مؤاتية، وجعلتا من المقاومة قدوة لحرب صمود واستنزاف انعكست على إسرائيل خوفاً وثأراً وحسابات ربح وخسارة، ما قلل من احتمالات عدوانها.
تبقى المقاومة قوة ردع لجبروت إسرائيل وعدوانيتها، وهي قوة استقرار سلبي في المنطقة. أما كيف العمل لتتحول إلى قوة تحرير ايجابية، فهذا السؤال بحاجة إلى الكثير من التعمق قبل الإجابة عنه.
في 25 ايار أشرقت الشمس من الجنوب وبدأ تقويم جديد بتوقيع المقاومة. ويبقى المستقبل مفتوحا على كل الاحتمالات، بما فيها احتمال التحرير.
سركيس ابو زيد
السفير اللبنانية
المفضلات