ملحق الثقافة
نقطة أوَّل السطر
تأثَّرتُ كثيراً عندما اطَّلعتُ على القصَّة المأساويَّة التي انتهتْ بها حياة الصحفيّ الكرديّ الشابّ (23 عاماً) "سردشت عثمان"، وتذكَّرتُ فيلم "زد" الشهير عن فظائع الدكتاتوريَّة العسكريَّة السابقة في اليونان، وفيلم "المفقود" عن فظائع الدكتاتور العسكريّ بينوشيت في تشيلي، ورواية "السيِّد الرئيس"، لـ"استورياس" عن الجرائم الفانتازيَّة لدكتاتوريّات أميركا اللاتينيّة السابقة .
كما تذكَّرتُ، أيضاً (وبشكلٍ خاصّ)، "قصَّة موت معلَن" لـ"غابرييل غارسيا ماركيز"؛ حيث يعمد ثلاثة أشقَّاء، مِنْ إحدى القرى الكولومبية، إلى إخبار القريَّة كلّها بأنَّهم ينوون قتل ابن قريتهم سانتياغو نصَّار، ثأراً لـ"شرف" شقيقتهم، ويعلنون وقت جريمتهم المزمعة ومكانها قبل وقوعها بأيَّام، ولم يكلِّف أحدٌ مِنْ سكّان البلدة نفسه بتحمّل أعباء إخبار "نصَّار" بما كان يُدبَّر له في وضح النهار وبعلم الجميع ما عداه، فتمضي القصَّة إلى نهايتها المعلنة مِنْ دون أنْ يعترضها عائق أو يغيِّر مسارها طارئ.
قصَّة نهاية "سردشت عثمان" اتَّخذتْ هذا المسار نفسه تقريباً، سوى أنَّها، بخلاف قصَّة نهاية "نصَّار"، كانت ملامحها معروفة لصاحبها مسبقاً مثلما هي معروفة للآخرين ومع ذلك، أصرَّ هذا الصحفيّ الشجاع على السير في الطريق نفسها بخطىً ثابتة وشجاعةٍ ملهمة كما لو كان بطلاً أسطوريّاً في تراجيديا إغريقيَّة! وثمَّة فارق آخر مهمّ بين القصَّتين، هو أنَّ قتَلة الشابّ الكرديّ لم يجرؤوا على كشف أنفسهم ولم تكن لديهم ادِّعاءات في "الشرف" أو سواه من القيم والأخلاق.
وسردشت عثمان، إضافة إلى أنَّه كان صحفيّاً موهوباً يعمل في صحيفة "أشتي نامة"، كان، أيضاً، طالباً في قسم اللغة الإنجليزيَّة في جامعة صلاح الدين في مدينة "أربيل"، كما كان مترجماً لعددٍ من الموضوعات من اللغة الإنجليزيَّة إلى اللغة الكرديَّة ومقالاته قصيرة، ومكثَّفة، ورشيقة، ومحبوكة جيِّداً، وتنطوي على سخرية لاذعة و"خفَّة دم" لافتة، وأصالة فنيَّة حقيقيَّة وقد كتب مؤخَّراً ثلاثة مقالات تسبَّبتْ في نهايته المأساويَّة، موضوعها المشترك هو محاربة الفساد والتسلّط والتخلّف ونفوذ أمراء الحرب الإقطاعيين الذين تحرسهم -كما كتب سردشت في أحد مقالاته– "كلاب أميركا وحرّاس إسرائيليّون".
أولى هذه المقالات الثلاث القاتلة، تتضمَّن إشارة واضحة إلى أنَّه كان يعي عواقب موقفه الشجاع؛ يقول: "أصدقائي يقولون: "سرو" (تصغير "سردشت")، دع عنك هذا الأمر" وذلك لأنَّ الأشخاص الذين ينتقدهم خطرون إلى حدّ أنَّهم: "إنْ قالوا انتهى أمرك، صار قتلك حتميّاً" وهم، كما يوضِّح أصدقاؤه، أنفسهم، لا صاحب لهم إلا "الجحوش والخونة"
وفي مقالته الثاني،ة يقول: "الكثير من الرسائل الإلكترونيَّة التي وصلتني كانت تهدّدني وتطلب صورتي وعنواني، كأنَّني سائق سيَّارة لم يقف عند الإشارة الحمراء لقد بعثتُ بصورتي إلى هؤلاء الأصدقاء، ولا أعلم ماذا يريدون مِنْ صورتي؟".
ويقول، أيضاً، في المقالة نفسها: "منذ الآن فصاعداً أنا كأيّ شابّ لا مبالٍ مِنْ أزقَّة مدينة أربيل وشوارعها، عاص عن كلّ أصنام وتماثيل السلطة، ننتظر مثل النبيّ إبراهيم لنكسرها كلّها".
في المقالة الثالثة والأخيرة، يعبِّر عن معرفته اليقينيَّة بدنوّ أجله؛ فيقول: "في الأيَّام القليلة الماضية قيل لي إنَّه لم يبق لي في الحياة إلا القليل، وقالوا إنَّ فرصة تنفّسي الهواء أصبحتْ معدومة" بيد أنَّ هذا لم يثنه عن مواصلة السير في الطريق نفسها التي جلبت له كلّ هذه المخاطر: "لا أبالي بالموت أو التعذيب سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الأخير مع قتلتي وأدعو أنْ يعطوني موتاً تراجيديّاً يليق بحياتي التراجيديَّة أقول هذا حتَّى تعلموا كم يعاني شباب هذه البلاد وأنَّ الموت هو أبسط خياراتهم حتَّى تعلموا أنَّ الذي يخيفنا هو الاستمرار في الحياة وليس الموت وهمِّي الأكبر هو إخوتي الصغار وليس نفسي ما يقلقني في هذه التهديدات هو أنَّ هناك الكثير الذي لا بدَّ أنْ يُقال قبل أن نرحل".
ويقول، أيضاً: "فليحدث ما يحدث، لأنَّني لن أترك هذه المدينة، وسأجلس في انتظار موتي أنا أعلم أنَّ هذا هو أوَّل أجراس الموت، وسيكون في النهاية جرس الموت لشباب هذا الوطن () إنَّها خطوة خطوتها بنفسي وأنا بنفسي أتحمَّل وزرها لذلك فمنذ الآن فصاعداً أفكِّر أنَّ الكلمات التي أكتبها هي آخر كلمات حياتي لهذا سأحاول أنْ أكون صادقاً في أقوالي بقدر صدق السيِّد المسيح وأنا سعيد أنَّ لديَّ دائماً ما أقوله وهناك دوماً أناس لا يسمعون ولكنَّنا كلّما تهامسنا بدأ القلق يساورهم ما دمنا بقينا أحياء علينا أنْ نقول الحقّ وعندما تنتهي حياتي فليضع أصدقائي نقطة آخر السطر، وليبدأوا هم بسطر جديد".
وما لبث القتلة "المجهولون" المعلومون أنْ نفَّذوا تهديداتهم؛ فاختطفوا سردشت، أمام أنظار زملائه مِنْ طلبة الجامعة، في الثامنة والنصف صباحاً مِنْ يوم 4/5/2010 بينما هو متوجِّه لحضور إحدى المحاضرات وبعد يومين، وُجِدتْ جثَّته في ضواحي مدينة الموصل كانت مقيَّدة اليدين وعليها آثار التعذيب والطلقات الناريَّة.
لقد كان مفروضاً أنْ ينهي دراسته الجامعيَّة بعد شهر ويحصل على بكالوريوس في اللغات، وربَّما كان ينتظره مستقبل مرموق في الصحافة -كما هو متوقّع مِنْ موهبته- أو ربَّما في أيّ حقلٍ آخر أو ما لا ندري ولكن، في كلِّ الأحوال، كان مِنْ حقِّه أنْ يعيش وأنْ يتذوَّق طعم النجاح والفشل؛ لا أنْ تُختَصر حياته وهي في ريعانها بطلقةٍ جبانة لأنَّه قال كلمة حقّ في وجه إقطاعيٍّ فاسد.
على أيَّة حال، إذا كانوا قد وضعوا نقطةً في آخر سطر حياة هذا الشابّ الشجاع، فإنَّ كلماته لم تمتْ، بل اكتسبتْ قوَّة هائلة مِنْ دمه، كما أنَّ كلّ القتلة وقوى الشرّ والجريمة الموجودين في عالمنا لن يستطيعوا منع آخرين من مواصلة الكتابة بعد هذه النقطة.
* سعود قبيلات
المفضلات