ملحق الثقافة
طنجرة نحاسية
إلى روح محمد طملية
رفعتُ سماعة الهاتف.. استمعت إليه، وضعت السماعة:.
سمير! لا أذكر أنه كان ينتظرني أمام بيتنا صباحاً للذهاب إلى المدرسة، ولا أذكر أننا جلسنا في مقعد واحد في المرحلة الابتدائية، فهو ممن يجلسون في المقاعد الأمامية دوماً...
بعد نهاية الحصص كنت أرمي حقيبة كتبي من فوق سور البيت، ثمّ نذهب إلى حرش مستشفى البشير، في أحد الأيام أمسكنا حرذوناً، أقصد أمسكته أنا.. فقد قال أحد التلاميذ ممن يجلسون في مقعد خلفي دوماً: "مَن يدهن كفّيه بدم حرذون لن يشعر بضرب العصي".. رفض سمير دهن كفيّه، لم يتعرض للسعات العصي مرة واحدة.
مرات عدة نمت في بيت سمير بناءً على رجائه.. وكانت أمه تُعد لنا شاياً وكعكاً، وتجاملني على مضض من أجله، لم أفكر قط ما الذي جعل سمير مصراً على صحبتي إلى هذا الحد.. فهو مجتهد، وأمه تعطيه مصروف جيب يومياً، مؤدب وثيابه جديدة ونظيفة دائماً.. متفوق في الرياضيات وبقية المواد، يستحمّ. هو كان كذلك. بعد انتهاء الفصل الدراسي بيوم واحد رحلت عائلته إلى مكان مختلف وبيت مختلف.. لم أستطع أن أودعه، فقد باشرت عملاً في "محددة أبو جريس" صباح اليوم نفسه.
سيأتي لزيارتي حتماً.
هي ثلاث دقائق، وإذا بشاب يفيض نشاطاً يدخل إليّ، وجهه يشعّ سعادة، أسنانه لامعة، شعره مشذب وممشط، يرتدي قميصاً أبيض وربطة عنق مقلمة ويتحدث بلا تردد:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
صعقت للوهلة الأولى، وكدت أسقط عن الكرسي إلى الخلف، إلا أنني تمالكت نفسي ورددت متلعثماً:
- وعليكم السلام.. أهلاً.
- أنا سمير، جئت مشياً على الأقدام، بيتي خلف هذه البناية تماماً، ليتني عرفت قبلاً أنك تقيم هنا، كيف حالك يا رجل؟
- كما ترى، أهلاً وسهلاً بك...
- أتتذكر أيام زمان؟..
قاطعته:.
- تفضل بالجلوس يا أخ سمير...
- أتتذكر عندما كنا...
قاطعته مرة أخرى:
- ماذا تحب أن تشرب؟
- شكراً، لا أريد شيئاً، أتتذكر أيام زمان، كانت أياماً، الطفولة والمدرسة وحرش المستشفى، الطنجرة النحاسية التي سرقتها من مطبخ أم السعيد وبعتها بنصف دينار لأبي عيسى تاجر الخردة؟ كان يوماً، أخذتني إلى وسط البلد، واشتريت لنا كعكاً وبيضتين مسلوقتين وزعتر وأكلنا كنافة نابلسية، دخلنا سينما البتراء وشاهدنا عرضاً متواصلاً، أتذكر عندما قمت بسرقة أحذية المصلّين البلاستيكية من المسجد لتبيعها؟ يومها أمسك بك أحد المصلين وأشبعك ضرباً بحزامه على قفاك، كنت تصرخ، ولكنك هربت من بين يديه بأعجوبة.. أتذكر؟
ظل سمير يتذكر ويذكرني ويضحك إلى الحد الذي لا يسمح لي بفرصة واحدة لمقاطعته، ومن الصعب في هذا الظرف منعه من أن يكون سعيداً، فظللت أهز رأسي حتى كاد يسقط في حضني، وتحولت إلى التنهد والتمتمة: أتذكّر.. أتذكّر.. أتذكّر....
أسهب في حديثه أكثر، فقد تزوّج وكان الحفل في فندق خمس نجوم، وأنجبت زوجته طفلين ذكرين وطفلة، أكبرهم في الصف الثاني الابتدائي، يأخذه باص كبير وحديث إلى مدرسة خاصة ويُعيده، الصغير يأخذه ويعيده باص الروضة كل يوم، والصغيرة يأخذها ويعيدها إلى البيت باص الحضانة، يدير فرعاً لأحد البنوك الكبرى، وبيته مُلك، قال: "المُلك لله"، وقال: "الحمد لله رب العالمين"، وقال إن سيارته الجديدة استبدل بها سيارة جديدة جداً بعد تخفيض الرسوم الجمركية، واشترى طقم جلوس بألف وخمسمائة دينار، وخلاطاً كهربائياً له استعمالات عدة، وقال إنه يؤدي صلاة الجمعة في مسجد يصلي فيه وزراء ونواب أمة، وأودع عدداً لا بأس به من آلاف الدنانير ورثها عن أمه في البنك، وأنه يحدث عني زوجته التي تملك سيارة خاصة وتعمل مديرة مدرسة تابعة لوكالة غوث اللاجئين، وأن أمه أعطتني عمرها قبل أربع سنوات، دفنوها في مقبرة أم الحيران.
ألقيت وجهي على كفي، فظهرت ابتسامة معوّجة وهزيلة، ومع تفاقم الضجر صرت أهزّ رأسي مثل يتيم الأم، أشعلت سيجارة، بالمناسبة، سمير لا يدخن، إنما يشرب شاياً دافئاً ويأكل بسكويتاً مملّحاً في الشرفة مع زوجته بعد القيلولة..
صرت أكبو، فبذلت ما بوسعي كي لا أغفو، وبذلت جهداً لإيجاد ما أتحدث به، وجهداً لئلا يلحظ مدى ضجري وكآبتي، وضاعفت جهدي كي أتذكّر أن لي صديقاً اسمه سمير.. فلم أفلح..
* رفعت العلان
المفضلات