مساق التربية الوطنية... إلى أين؟
جاء قرار مجلس التعليم العالي عام 2004 بتدريس مساق التربية الوطنية كمتطلب جامعة إجباري حكيماً وضرورياً، وبعد طول انتظار، كما أتى معبراً عن إرادة وطنية عامة، ومستجيباً لقناعة أطراف وجهات عدة بضرورته وأهميته. في حين كانت وزارة التربية والتعليم قد استجابت لتوصيات مؤتمر التطوير التربوي عام 1987 بتدريس مادة التربية الوطنية والمدنية في مراحل التعليم الأساسي والثانوي. وبعد ثلاث سنوات من تدريس مساق التربية الوطنية في الجامعات الأردنية برزت ملاحظات كثيرة حول هذه التجربة، وارتفعت أصوات كثيرة من داخل الجامعات وخارجها تنادي بضرورة إعادة تقويم التجربة والوقوف على ما برز من سلبيات بهدف معالجتها وما ظهر من إيجابيات بهدف ترسيخها وتعظيمها.
ومما لاشك فيه أن آمالاً كثيرة عُلقت على تدريس هذا المساق لملء الفراغ الكبير في مجالات التوعية الوطنية، والتثقيف الوطني، وبلورة الهوية الوطنية الأردنية الجامعة، وكانت أهداف تدريس المساق تشير إلى هذه الحاجات بالإضافة إلى تحديد جملة أهداف لتدريس المساق منها: السعي لبناء شخصية الطالب الأردني بصورة متوازنة بعيدة عن التعصب والولاءات الضيقة، وتثقيف الطالب الجامعي بتاريخ وطنه، وجغرافيته وموارده، وبأبرز ملامح نظامه السياسي والدستوري، وتكوينه الاجتماعي والاقتصادي، وبأبرز التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهه، وبدور القيادة الهاشمية في بناء الأردن الحديث، بلا شك إنها أهداف هامة لكن التجربة اكتنفها بعض القصور والتعثر، ومن هنا برزت أصوات تشكّك في فكرة تدريس المساق من حيث المبدأ وتوجّه نقداً حاداً للتجربة، وذهب البعض في نقده إلى حد المطالبة بالعدول عنها وإلغاء المساق أو الاستعاضة عنه بمساقات أخرى بديلة!
في حين نتفهم نقداً موجهاً لتطوير التجربة وتخليصها من سلبياتها ومعيقاتها، فيمكننا تفهم الحديث عن فوضى التأليف وتعدّد المؤلفات المتفاوتة في مستواها العلمي، بل تدني مستوى كثير منها إلى الحد الذي يجعلها عاجزةً عن ملامسة تلك الروح النبيلة التي وقفت خلف فكرة تدريس المساق، وقاصرةً عن تحقيق أهداف المساق، ولا نجد أنفسنا مختلفين كثيراً مع من يشكو من السرد التاريخي أو الحشو الزائد أو جنوح بعض المؤلفات إلى الجدل السياسي والتنظير العقيم. ولا يبدو مستغرباً أن يوجه البعض نقداً لاذعاً لأهلية بعض مدرسي المساق من حيث التخصص والاستعداد الفكري والنفسي والعلمي لتدريسه، أو من حيث درجة إيمانهم بفكرة المساق، أو درجة التزامهم بمفرداته بعيداً عن المنهاج الخفي الذي يسعى البعض إلى تطبيقه على طلبتهم مما يفرّغ المساق من محتواه ويحرفه عن أهدافه، ويحيل الطلبة إلى حقل تجارب ليس إلا. ونتفق تماماً مع من ينادي بمبادرة سريعة من مجلس التعليم العالي إلى تشكيل لجنة تعيد النظر في المساق جملةً وتفصيلاً، وتكليف مجموعة من خيرة أصحاب الاختصاص والكفاءة بتأليف المادة العلمية المقدمة للطلبة، وتحديد الخطوط العريضة للمساق، على أن تقوم الجامعات بطباعته في حين يُرصد ريعه لصالح صندوق الطالب المحتاج في كل جامعة،
والمأمول أن يُصار إلى الاعتراف بأن المساق لا يهدف فقط إلى إكساب الطالب بعض المعلومات والمعارف الأساسية، بل يرمي إلى تزويده ببعض الاتجاهات، والمهارات الحياتية ودمجه في المجتمع عبر المشاركة، مما يساهم في تطبيق المعارف والاتجاهات والمهارات التي يتعلمها في واقع الحياة وبما يتيح للطالب أن يساهم بقدراته وخبراته في خدمة مجتمعه، ولعل إعادة النظر في طرائق تدريس المادة بعيداً عن التلقين التقليدي ووصولاً إلى التعليم عن طريق الاندماج الاجتماعي عبر العمل، والمشاركة في المجتمع، من خلال العمل التطوعي عبر برامج ومشروعات تمسّ حياة الطالب والمجتمع حاضراً ومستقبلاً. ولما كان هناك شكوى من عجز المساق عن تنمية معاني الانتماء والولاء لدى الطالب، ومساعدته على خفض بعض المخالفات السلوكية التي يتورط فيها، أو العجز عن تعديل السلوكات السلبية التي يمارسها الطلبة، فإن هذا لا يتطلب في ظني إضافة مساق جديد يختص بالسلوك الجامعي، والعلاج لا يعدو سوى تفعيل مساق التربية الوطنية والنأي به عن الجمود والتنظير وتوجيهه إلى ملامسة الواقع والانطلاق منه ومساعدة الطالب وتهيئة الظروف أمامه لتعديل سلوكه إيجابياً، وإكسابه القدرة على الالتزام بالسلوك الحضاري، وبما يعبّر عملياً عن تنمية معاني الانتماء والولاء لدى الطلبة. في اعتقادي أن مساق التربية الوطنية ينبغي أن يهتم بتعليم الطالب محددات العلاقات الطلابية، ويرشده إلى التخفيف من حدة السلوكات العنيفة، ويزيد في قدرته على التواصل والاندماج الاجتماعي، و بناء العلاقة مع الآخر المختلف وتقبله، وتنمية قدراته في مجالات مهارات الاتصال وتنمية الذات، والتفكير الناقد، وأخلاقيات الحياة الجامعية، ومهارات حل الخلافات، وحماية البيئة، ومقاومة الآفات الاجتماعية، واحترام القانون والمحافظة على ممتلكات الجامعة والممتلكات العامة والشخصية، باختصار فإن المنشود من تدريس المساق هو إرساء أسس المواطنة الصالحة الملتزمة بثوابت المجتمع والوطن.ولعل الاهتمام الملكي غير المسبوق بالقطاع الشبابي وتوجيهات جلالة الملك المستمرة للحكومة في كتاب التكليف، وللشباب عبر رسالة جلالته لهم يدفع بوزارة التعليم العالي لإيلاء مساق التربية الوطنية العناية التي يستحقها لجهة التأكيد على أهميته وتطويره وتفعيل دوره في خلق الهوية الوطنية الجامعة التي ينادي جلالته بضرورة بلورتها، ويوجّه الدولة والمجتمع لضرورة العمل الجاد من أجل إبرازها وحمايتها من كل ما يسيء لها. وفي اعتقادي أن مساق التربية الوطنية يمثل النافذة الأساسية لخلق الحوار اليومي والفاعل والعملي حول مجمل الهموم الوطنية وفي مقدمتها هموم القطاع الشبابي (فرسان التغيير) مما يعني أن صناعة الهوية الوطنية الجامعة يمكن أن يتم جزء هام منها عبر تدريس مساق التربية الوطنية. كما إن للمساق دوره في عملية نشر الفكر التنويري ومحاربة ثقافة العنف والغلو والتطرف، ومحاربة الآفات الاجتماعية والفكرية والثقافية والسلوكية كافة في أوساط الشباب. على العموم هل بتنا بحاجة إلى خلوة وطنية ترعاها وزارة التعليم العالي وبمشاركة أطراف معنية وذات علاقة لإعادة النظر في مجمل تجربة مساق التربية الوطنية؟
المفضلات