ملحق الثقافة
ثلاث دمعات على بغداد
حصار
أكثر ما أثار استغراب السائق الذي أقلَّه من المطار إلى مدينته، هو أن ذلك المسافر الضرير كان يعرف تفاصيل الطريق. ما إن وصلا مشارف المدينة حتى أعلن عن ذلك. قائلاً:
- يبدو أننا قد وصلنا السلط. والآن ستدخل إلى وسط البلد، ومن الساحة سنصعد إلى الجدعة.
دخلا الشوارع الضيقة في وسط المدينة. كان يرشده من أين يدخل ومن أين يخرج. أوصله بيتا تنزل من بوابته الحديدية ذات اللون الأبيض إلى الشارع عشر درجات حجرية، تتدلّى من فوق جداره الخارجي "ياسمينة عراقية" رائحتها منعشة، وتتعربشه "مجنونة" زهرية اللون، ويستند إليه معرَّش دالية، وتظهر خلفه شجرة تين. أشار للسائق بالتوقف، وراح يصعد الدرجات سريعاً، كما لو كان بصيراً، دون أن يستعين بعصاه.
رغم محاولات السائق الكثيرة لجرّه للحديث أثناء الطريق، إلا أنه لم يفلح، فقد أدرك الرجل الضرير غاية السائق، قال له:
- اسمع يا صديقي! المسافة حتى السلط قصيرة، وأنت لا تحتاج إلى من يسلّيك، إذا كان معك تسجيلات قرآنية، أسمعنا. لا رغبة لدي بالحديث، أرجو المعذرة.
دهش السائق لذكاء الرجل الأعمى، وجرأته. أدار شريطا بصوت عبد الباسط دون أن يتفوه بكلمة، "إذ قال يوسف لأبيه...". السائق لا يستطيع أن يرى ما خلف عيني الرجل، الذي شرد بعيدا حتى حدود الكون. "يا إلهي! لكم أعشق صوته! لكن لماذا يذكرني بيوسف. سيأكله الذئب. لقد تركته فريسة له هناك".
كانا قد استسلما لصوت القرآن، قبل أن يعلن الرجل الضرير وصولهما السلط.
قرع الباب. الدار نفسها، إنه يشمّ رائحتها. خفق قلبه كثيراً بانتظار سماع صوت أمّه أو أخته. ترى كيف هما بعد خمسة وعشرين عاما؟لا بد أنهما كبرتا كثيراً الآن. هل سيكون أحدٌ من إخوته أو أبنائهم موجوداً؟جاءه من الداخل صوت نسائي لم يعرفه:
- من بالباب؟
- أنا غالب.
مرت لحظات صمت طويلة، بدت كأنها قرن. المرأة خلف الباب نظرت من خلال "العدسة السحرية" فوجدت رجلاً ضريراً، خمسينياً، أشيب، ترك الشيب عليه مسحة من الوقار. وقفت صامتة، وهي تفكّر:"من يكون؟إنه يقرع الباب بثقة، كما لو كان بيته. ليكن من يكون". ثارت الرغبة لديها. بدأ الدم يتحرك في عروقها، ورأسها اشتعل بالأفكار. "ليكن من يكون. إنه رجل، وأعمى، وهذا شيء جيد". فتحت له الباب. دخل متوجساً. خطا خطوة إلى اليمين، مدّ يده، فاصطدمت بشجرة التين. إنه منزلهم بالتأكيد، لكن الرائحة ليست رائحة أمه.
- نعمة؟
- نعم.
صمت قليلاً وقد تملكته الحيرة والتردد، ثم سأل:
- أين أمي؟
- ادخل الآن! سأحدثك بكل شيء.
أمسكته من يده، أحدثت حرارة يدها لديه رعشة. ليست لمسة نعمة، ولا رائحتها. لماذا لم تقل:"الحمد لله على السلامة؟. أجلسته على كرسي بلاستيكي تحت عريش الدالية. قالت، وقد اتقد ذهنها:
- ماذا تريد أن تشرب؟
"إنها ليست نعمة. نعمة تعرف أنني أحب الشاي وعليه ورق الملّيسة". قال:
- ألم تعد الملّيسة موجودة؟
- فهمت! أنت تريد الشاي بالملّيسة.
الشك ما يزال عند الرجل، لكن الشاي الذي يفوح برائحة الملّيسة القادم من المطبخ، جعل نفسه المضطربة تهدأ قليلاً. قرّر أن يتحرك من مكانه، ليعيد اكتشاف المكان، يتحسس كلّ شيء بيديه:النافذة الخشبية المطلة على باحة المنزل الصغيرة، أحواض الورد، شجيرة الملّيسة، الياسمينة، المجنونة، الجوريّ، شجرة التين، وشجرة الليمون في الداخل. الدرجات الثلاث المؤدية إلى البسطة الأخرى التي يظللها عريش الدالية، وزير الماء الكبير تحتها. تحرّك من دون عصاه، تأكد من وجود كل شيء، واستعاد رائحة كل شيء.
ارتاحت نفسه قليلاً، لكنه لم يتوقف عن التفكير. في اللحظة التي غابت فيها المرأة في الداخل لتعد الشاي أحس بأفراد العائلة يحيطون به، وهو يعزف على العود، ونعمة تغني بصوتها الرخيم لسعدون جابر.. يمّو بنت الديرة.. يمّو حلوة صغيرة. لام نفسه أنه لم يتصل بأخته قبل أن يعود، كان محرَجاً جداً، فقد انقطع عن الاتصال بأهله من لحظة معرفتهم بزواجه في أميركا من تلك المرأة الزنجية. قالت أمه حينها:
- لا أريد أن أرى وجهه، ولا أريد أن أسمع أخباره.
زوجته الأولى حصلت على الطلاق، ولم تقنعها كل ادعاءاته بأنه تزوج من أجل الحصول على الجنسية. قالت:"أنت تحصل على الجنسية، وماذا أجني أنا؟، تركت ابنها ذا السنوات الثلاث لجدته، وغادرت البيت.
جاءت المرأة بالشاي، وضعته على طربيزة بلاستيكية تحت عريش الدالية. قالت له وهي تسكب الشاي:
- أردتَ أن تتعرف على الدار؟
- أنت لست نعمة.
- أنا نعمة، لكني لست أختك. أنا عراقية.
تبدد القلق تماما هذه المرة، شرب الشاي الكأس تلو الآخر، وهو يحاور المرأة، قالت:
- قتل زوجي في أحد التفجيرات. رأيت في حياتي أهوالا. رأيت الطائرات تلقي صواريخ مذهلة وتمرّ سريعاً، عندها تتحوّل السماء إلى سحب من غبار، والأرض إلى مستنقعات دماء.صمتت قليلاً، ثم قالت:
- هربت من هناك بروحي، لم يعد لي أحد.
وكعادته، حيث أنه لا يبيّت فكرة تخطر بباله، قال بشكل مباشر:
-هل تتزوجيني؟
قبل لحظات كانت المرأة الوحيدة قد أشرعت نوافذها لنفحات رجل لا يستطيع أن يكتشف ما تركه الرعب والخوف والجوع والمهانة على وجهها. ابنة الثلاثين بدت عجوزاً سئمت طول العمر. لكنها في هذه اللحظة بالذات بدت كأنها استفاقت من حلم يقظة. شيء ما كصفعة، كرصاصة، أحدث دوياً موقظا إيّاها من حلمها. قالت:
- لا!.
لم يتوقع الجواب. كان بحدسه الرجولي يتوقع موافقة من دون تردد. هذا ما حدث معه في كل المرات التي تزوج بها. سأل:
- لماذا؟
قالت من دون تردد:
- ألست أميركياً؟
لم يكن يتوقع أن يكون هذا السبب بالنسبة إليها. إنه لم يعدّ نفسه يوماً أميركياً، رغم مرور ثلاثين عاماً على هجرته إلى أميركا، ورغم حصوله على الجنسية الأميركية، ورغم زواجه هناك من أميركية.
سكانت زنجية، وكان حينها شاباً، يريد أن يحصل على الجنسية بأي وسيلة. كانت تكبره بعشر سنوات. وجد لديها عملاً مناسباً:بائعاً في "كشك" لبيع التسجيلات والأدوات الموسيقية. كان يمضي وقته يعزف على القيثار لنفسه ولجذب الزبائن. عندما أخبرته أنها زنجية، قال:"الألوان بالنسبة لي متساوية"، وتزوجها، لكنه لم يشعر يوماً أنه أميركي.
قال:
- ماذا تقولين؟إنني لست أميركياً. الظروف هي ما قادني للحصول على الجنسية!.
قالت، وقد تركت الباب موارباً قليلاً:
- في الحقيقة، أنا أكره الأميركان كثيراً.
كان حديثاً ذا شجون. لم يستمع له كثيراً. كان قد اختبأ وراء عينيه المطفأتين وشرد بعيداً. تذكّر ابنه يوسف، وتذكّر أنه في آخر اتصال مع ماريان، كانت قد أخبرته أنه التحق بالجيش. فكّر: ترى، هل يكون الآن في العراق؟هل يقتل العراقيين هناك؟وأيمن الذي كان شديد التدين، والذي كان قد اختفى، ترى، هل يمكن أن يكون قد دخل العراق، أيضا؟.
تسارعت الخيالات لديه،.
الأخَوان يتواجهان في معركة، يقتل أحدهما الآخر.
أيمن يفجّر نفسه بدورية أميركية فيها يوسف..
يوسف الزنجي، وأيمن الأشقر، ذو العينين الزرقاوين، يقفان متقابلين على حافتي جرح بغداد. ناظراً أحدهما في وجه الآخر، مثل ديكين على أهبة القتال. ينقض أحدهما على الآخر، يفيض جرح بغداد.
يوسف يقف فوق أجساد المعتقلين العراة في "أبو غريب"، يحرّق بسيجارته آلام أيمن.
يوسف يتذكر الدم العربي الذي يجري في عروقه، يدخل برشاشه إلى قاعدته، يطلق النار على الجنود، ثم يطلق النار على... لا،.
يوسف يمسك السكين فوق رقبة أيمن.. ويلتقط صورة وهو يضحك.
أيمن يقود سيارة، يدخل بها سوق خضار، السيارة مفخخة. أحدهم يفجرها عن بعد.. زوج نعمة من بين القتلى..
قالت نعمة:
- وأنا اعتقلت أيضاً.
استفاق. واصلت هي الكلام ببرود، وكأنها تقلّب صفحات الجريدة:
- واغتصبوني!.
صمت. "ترى هل كان يوسف بينهم؟عليّ اللعنة! لماذا تركت يوسف لماريان؟أنا أعمى..". أراد أن يصرخ. قال:
- تزوجيني!.
- لقد تعرفت إليّ للتو!.
- لكنك أكثر امرأة عرفتها و...
كان محرجاً أن يقول أحببتها. هل يحدث الحب خلال ساعة؟
الحب أعمى دائماً.
د.باسم الزعبي
المفضلات