صدى الانتظار
هزاع البراري -في انتظارك منذ النفخة الأولى.. يا خارجاً عني، تعود إلي بعد النزعة الأخيرة، محاطاً بالبكاء الكاذب، سأوسع لك تجويف القلب، وأنتقي لجسدك ناعم التراب، فهنا لا حرير ولا ريش نعام، خبأت لك جيشاً من المرحبين بأعضائك جيدة الطعم، هل نسيت نكهة الطين يا ابن التراب؟ تقدم إليّ إذاً مغسولاً بالقراءات، مكفّناً بالدعوات المحفوظة عن ظهر قلب، وملفوفاً بالقماش الشائب، حتى لا تثير خجلي وأنا أضمك إلى أحشائي مثل ماء يتسرب إلى تجاويف ذاكرتي.
***
أحاطوني بوقار الصمت، قناديل وجههم بين حياد وإشفاق، وشفاه مطبقة لا تجد ما تحرك به قسوة النهاية، قرأوا عليّ ما قرأوا على موتاهم، وسكبوا الماء على يابس جسدي الملقى كومة مطاط بلا نفخة، دهنوني بزيت الورد والعطور، وداروا حولي سبعة أشواط بالبخور، ومن ثم رفعوا أيديهم بضرع أجوف وهمهمات غير واضحة، ولفعونني بالأبيض الباهت، فسقط عليّ الظلام دفعة واحدة.
وقالوا: نتركه للنساء يبكين موته، ويأسفن على شبابه النافق بلا معنى.
شعرت بهن يدلفن إلى خلوتي.. رجل وحيد يفوح من جسده العاري عطر الورد وعبق البخور بين نساء خلعن خلف الباب رغباتهن وفتحت بوابات الدمع على غيابهن، هكذا بدأ الأمر؛ عويل مكبوت متهدّج، ثم بكاء صريح سرعان ما تحول إلى صراخ وولولة على أشخاص لا أعرفهم.. ألست أنا الآن من يحظى بموت طازج؟ لماذ إذاً يشاركني قدامى الميتين بكائي؟ ألا توجد امرأة واحدة تصدقني الدمع؟!
***
جاءوا في الصباح الباكر، في وجههم بشرى عودتك، دقّوا عليّ بفؤوسهم وأدوات حفرهم، فأرخيت مسامات تكويني، الفأس من يد إلى يد لا تستريح، وأنا في خدر الاستقبال أتخيل هيئة فارسي القادم بلا كأس، لقد أفرغته السنوات من كل شيء سوى ذاكرة تهدر كشلال غاضب. همس أحدهم:.
- حتى في موته يزعجنا... أجبرنا على هجر تلك القبور الجاهزة... يريد أن يُدفن وحيداً في هذا المكان الخالي والموحش.. بذلك يكون منبوذاً في موته كما كان في حياته...
يرفع أحد المتطوعين لحفر القبر رأسه معلناً تعبه وضيقه:.
- أمضى عمره بقول الكلام الغامض، وعاش حياة بائسة، لقد أسرف بالتطرف فشرب حتى لم نشهد له صحوة، وأحَبّ امرأة من دخان حتى لم نجد له باكية، وحين مات وحيداً، لم يترك رغم كتاباته الكثيرة غير ورقة توصي بمكان دفنه...
أنا جدير باختياره، فهو يشبهني كثيراً، فأنا مليء بالأشواك والوعورة، لا يعرفني غير الرعاة وعاثري الحظ من الصيادين، لكني أختزل في ذاكرة حجارتي وأشجاري العطشى كل قصص الغرام غير المعلنة، الآن سأحظى بميت أعرفه ويعرفني.. سيكون لي قبر يسكني إلى الأبد، وقد صدّ عني البشر والرّحل، فلا تستوطنني غير الوحشة والمخاوف.
***.
أعلى من قاماتهم، أتمدد بارتخاء الميت، رؤوسهم منكسة مثل رايات خاسرة، أهكذا يُزف الكائن إلى منتهاه؟ أخرج من بيتي إليك، استقبلني، أنا غريب فلا يغرنّك تدافعهم خلفي، إنهم يتخلّصون مني، فيا لحدّي المسكون بالكآبة والعتمة خذني إليك، فبيننا غربة وسوء مآل، وسوء منقلب، اخترتك ولا أعلم أني اختيارك، أنا وأنت نسقط في وهم الاختيار، فأعذر ارتباكي، لأني خارج من حياتي التي لم أعرفها، مقبل على مماتي الذي أعرفه، واغفر تأخري يا أبي القديم، لم أكن عاقّاً لكن الطريق تأخرت بي فافرد لي جناحاً صدرك وخذني بعيداً إليك.
***
لننزله على مهل، موته هش، لا نريده أن يصحو علينا، مدّدوه بروية، وأغلقوا فضاءهُ بسماء بلاط وإسمنت، الموت خلاص، والدفن إكرام، فأحسنوا إكرامه لكم أجر مؤخر، لنهل التراب عليه، أسرعوا حتى لا يأتي ليل فتفزعنا هذه البقاع النائية، الآن نسوي تراب القبر مع الأرض، لا تبرزوا حافة ولا تميزوا زاوية، لا تضعوا شاهدة أبداً، فلم يشهد على حياة أحد، تلك وصيته التي تركها ليمعن في إفساد فرحتنا بموته.
***
أنا الآن في داخلك حامل كاذب، تراب قبري هو ترابك، لا ندوب ولا شواهد ولا آثار دفن، يستوي موتي مع حياتك، سيعبر فوقي رعاة وعشاق ورحّالة لن يفزعهم قبر في أطراف القفر، ها أنا محاصر بالعتمة والنسيان، بلا كينونة واضحة، في التراب ولست منه، حي ولست في الحياة، عاشق ولم تعرفني امرأة، أحمل بضاعة من ذنوب عديدة، فلا ميزان ولا سائل.. أجيب.. بضاعتي تجيب.. لكن لا سائل لا سائل...
***
وحدي من يعرفه ولا يتذكره، جهز إجابته وانتظر السؤال، ولمّا أدرك نسيانه كان جسده قد تلاشى بالموت والعفن، أعرف أنه ما يزال يسترجع خساراته، لكن حياته إن كان حيّاً وموته إن كان ميتاً لا يسترجعان، لو أملك لفظة لما اختلط الموت بالحياة.. لو أملك سؤالاً واحداً لما غرقت بالتعاسة الأزلية...
المفضلات