قالت الزنبقة
سميحة خريس
في الكون لغة لا تشبه تلك اللغة التي نتعلم في الكتب، في الكون إشارات على ما تحفل به الحياة من انسجام رغم فوضى الإنسان وفعاله، وفي الكون رصد دقيق للزمن يمر على المرء دون أن يلمسه أو يدركه رغم اختراع الساعات، وجدولة الأيام والسنين، وتطور العلوم التي تتعامل مع الزمن، ورغم انتشار المرايا.
في أصص فخاري صغير زرعت بصلة زنبقة منذ ثلاثة أعوام، حدث ذلك في موسم بعيد عندما قدمت لي امرأة هولندية عابرة أبصالاً للزنابق الهولندية على سبيل الهدية، ولافتقار منزلي إلى الحديقة استعضت عنها بأصص على حافة برندة صغيرة، وكانت الأبصال سخية بصورة لا يمكن تصورها، فبعد أسبوع من زراعتها شقت عروقها الخضراء التراب، وراحت تنمو على عجل وتتغاوي إلى أن تفتحت أزهاراً مختلفة الألوان بهيجة.
بانقضاء الربيع انفرطت بتلات الزنابق، واصفرت عروقها ثم جفت وتقطعت، وأمحل أصص الفخار على طرف البرندة، بدا كما لو أن الزنبق يعرف حدود عمره وينسجم مع الكون، إذ إنه مع تقلب الفصول، عاد في الربيع التالي، ليمارس ذات النمو وأينع مجدداً، ثم في ربيع ثالث فعل ذات الفعل، ذكرني بأبصال لزنابق زرعها أبي في حديقة منزلنا القديم قبل عشرين عاماً، ولم تزل تتجدد كل ربيع، رغم أن البيت غير البيت، ومن ارتحل ارتحل، ومن كان صغيراً اكتهل، وكثيرون ولدوا جيلاً جديداً في ذات الموقع.
لا تفلح المرايا غالباً في اقناعك بمرور الزمن، وإن لفتت انتباهك، كما يمكنك انكار الصور القديمة والجديدة التي تفضح التغييرات التي أحدثتها الحياة فيك، حتى في مجال تطورك الفكري ونضجك فإنك عاجز عن رؤية التراكم المعرفي ساعة وقوعه، وعاجز عن فصل ما يجد وما يتحول وما يتغير، منسجم مع نفسك وكأنك دائماً وأبداً كنت كما أنت تلك اللحظة، إلا إن حكمة مرور الزمن علينا لا يمكن فهمها إذا لم نعترف بها، إذا لم نلاحظ مرور الزمن بعناية كما يفعل الزنبق حين يعد السنين، واشراقات الشمس اللازمة لعودته، لعل الزنبقة قالت لي أن العمر يمضي، ولكن الحياة قالت إني استزيد من عطائها ولو بخلت في بعض مفاصلها، ولو قترت في جانب، فإنها تمنحنا ذلك الأمل المضيء المحفز للمضي كأننا في خطوتنا الأولى.
حين تتحدث زنابق الربيع، تلك المقيمة بيننا في هذا الموسم، فإنها دلائل مرور الزمن، وأكثر من ذلك هي دلائل امكانياته المذهلة على التجدد والوفاء بالجمال في كل حين، أتوافق مع رباعيات شاعر الثورة المصري المبدع صلاح جاهين حين كتب بالعامية قائلاً:.
أنا اللي بالأمر المحال اغتوى.
شفت القمر، نطيت لفوق في الهوا.
طلته، ماطلتوش، إيه أنا يهمني.
وليه؟ مادام بالنشوة قلبي ارتوى.
عجبي.
فتحت شباكي لشمس الصباح.
ما دخلش منه غير عويل الرياح.
وفتحت قلبي عشان أبوح بالألم.
ما خرجش منه غير محبة وسماح.
عجبي.
[IMG]http://upload.*************/images/x2mkz8wacct87217xe.gif[/IMG]
المفضلات