صديقي
الزمن علاج لهموم القلب, والتفكير ترياق لمشاكل العقل, والتجربة إكسير لنقص الشجاعة, لكن صديقي كان يختلف, يختلف جدا, معضلته تحتاج إلى دواء أخر, ربما كان يحتاج لحظة, لحظه خاصة ومميزة تنفث الروح في واقعه الذي بدا له شديد المرارة, ربما كان يحتاج ومضة, ومضة ساطعة وواضحة تنير له الطريق الذي رهب ظلامه, وربما يتحقق أسوأ كوابيسه ولا يكون هناك مشكلة, ويكون هذا هو الواقع فقط ..
صديقي ..
لم يكن مجرد شاب أخر .. أو على الأقل حاول أن لا يكون كذلك ..
كان يصعد السلم درجة درجة, لكنه وصل لأعلى السلم و ظل قصيرا, لذلك قفز منه معلنا النهاية..
لأن عكس الأرض السماء, وليس الدرجة الأخيرة من سلم قصير ..
صديقي ..
لم يكن مجرد حالم أخر, أو على الأقل حاول أن لا يكون كذلك ..
كان يسيح في الأرض باحثا عن أحلام يلتقطها ليضعها في كيسه المقدس فوق ظهره, على أمل أن يأتي اليوم الذي تكتسي جنحان أحلامه ريشا, فيطلقها لتغرد كعصافير الفجر ..
لكن ما لبثت زقزقة العصافير في ذلك الكيس أن تحولت لزعيق شياطين جاءوا من حضيض سقر ليشربوا من دماء أحلامه الوردية ..
كيف يكون الندى شائباً ؟, كيف يكون الجوري ساماً ؟, و كيف يكون المزن بخيلاً ؟, لم يكن يستطيع أن يتصور أي من هذا, لكنه فوجئ بكيس أحلامه ثقيلاً ..
فهرع إلى الوادي السحيق ورمى الكيس ..
صديقي ..
كان مجرد متيم أخر .. بكل معنى الكلمة ..
كانت تعني له أكثر من أنثى بعيدة قريبه, كانت بالنسبة له لحظة رضى خالدة, كان يشعر بالدفء عندما يتذكرها, أقسم لها أنها من كوكب الزهرة, لأن سكان الأرض لا يستطيعون أن يتجسدوا بالمعاني, كما فعلت هي بمعنى وجوده ..
كانت .. ملاكه الخالد .. طفلته الصغيرة .. هرته الناعمة.. فتاته الطاهرة .. عالمه الوحيد.. ملاذه السرمدي .. محتواه الكلي ..
كان يقاتل من أجلها, كان يراها سببا مقنعا جدا لكي يستمر حياً, كان يعتبرها العنصر الأولي البسيط الذي صنع منه كل طموحاته وأماله وأهدافه, كان الماضي ينتهي إليه بصورتها مبتسمة, والمستقبل يبدأ له بصورتها خجله ..
وفجأة اختفت ..
صديقي ..
ربما كانت مشكلتك تكمن في فهم أبعاد كلمة ” واقعية “, أحيانا كنت تفهم أن هذه الكلمة تعني “الحاصل”؛ أي ما حصل, وكان هذا يعني أنك لو استيقظت يوما و وجدت نفسك في بلاد العجائب مع أليس فلن يكون لك هذا أكثر من كونه الواقع, لأنه ببساطة ما حصل ..
وأحيانا كنت تفهم أنها تعني “الممكن”؛ فلو أردت شيء ما, فإنه يجب أن يكون واقعيا وإلا فلن تحصل عليه, لكن بما أنك تريد شيء واقعي فهو موجود بحكم أنه واقعي, ولكن بما أنه موجود لماذا تتمناه ؟! ..
الفرق كان هشاً وجذرياً في نفس الوقت بين الفكرتين ..
ربما أنت الإنسان الوحيد في تاريخ البشرية الذي منذ ولدته أمه وجهله يتزايد, حتى أمسى ” الواقع ” بالنسبة له لغزا آخر ..
صديقي ..
أعتقد أنك لم تعد تملك شيئا يستحق الذكر, لم يعد في جيبك سوى ألم من الماضي و خوف من المستقبل, وللأسف لقد أضحيت عبرة للناس, وأحيانا أضحوكة لهم ..
صديقي ..
لستَ من النوع الذي يُفضي بمكنونات قلبه بسهولة, و للأسف عيناك لا أجد فيهما سوى الصمت المطبق, ذلك الصمت الذي يدل على صراع متوحش مميت يعتمل في داخلك, لكني أعرف أنك كنت تتوقع مني الكثير, أنا آسف يا صديقي, لم أستطع أن أفعل لك شيئا, ويبدو أني لن أستطيع, ربما كنت أقل من توقعاتك بكثير ..
صديقي ..
أتمنى أن تسامحني يوما ما, كل ما أستطيع فعله الآن هو أن أكتب لك هذه الكلمات, وأن أدعو بأن توصلك أمواج الحياة إلى الأرض التي تتمناها, حتى لو كانت أرض السعادة ; وهي أدنى ما تتمنى.
سعود العمر
المفضلات